أوروبا تحيي ذكرى النصر وعيونها على الحرب الروسية الأوكرانية

بينما تحتفل أوروبا بالذكرى الثمانين ليوم النصر في الحرب العالمية الثانية، الذي أنهى واحدة من أكثر الحروب دموية في التاريخ، لا تخطئ العين أن مشاعر النصر والفرح لم تعد خالصة كما في العقود الماضية. فقد تسللت مشاعر الخوف والقلق مجددًا إلى قلب القارة العجوز، إذ تلوح في الأفق ملامح تهديدات متزايدة تُعيد إلى الأذهان الكوابيس القديمة التي خُيّل للأوروبيين أنهم تجاوزوها.
ففي لندن وباريس وبرلين، حيث تُقام عروض رمزية وقداسات وفعاليات شعبية، تتصدر مأساة أوكرانيا المشهد؛ دولة أوروبية تخوض منذ عام 2022 حربًا شاملة ضد روسيا، في صراع يُعد الأعنف في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وكأن التاريخ يُعيد نفسه، ولكن في صيغة أكثر تعقيدًا، تفرض على القارة أسئلة وجودية حول أمنها، ووحدتها، وقدرتها على الصمود.
في قلب هذه الأجواء، تأتي تصريحات القادة لتُذكّر بأن الاحتفال لا يعني النسيان. رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، في نبرة تحذيرية، أعلن أن زمن "اللامبالاة المبهجة" قد انتهى، ودعا إلى تعبئة أوروبية شاملة للدفاع عن القيم الديمقراطية. أما في البرلمان الأوروبي، فقد كان صوت قدامى المحاربين، مثل البلجيكي روبرت تشوت، محملًا بالقلق من هشاشة السلام الأوروبي، ليؤكد أن الانتصار على النازية لم يكن نهاية الصراع من أجل السلام، بل بداية معركة دائمة لحمايته.
رؤية قاتمة
الرؤية القاتمة لا تتعلق فقط بالحرب في أوكرانيا، بل أيضًا بمتغيرات داخلية عميقة تهزّ بنية الاتحاد الأوروبي. فصعود اليمين المتطرف في عدد من الدول، واتساع فجوة الثقة بين الشعوب ومؤسساتهم السياسية، يهددان بتقويض المكتسبات الديمقراطية التي قامت عليها أوروبا ما بعد الحرب.
أمام هذه التحديات، تقف المؤسسات الأوروبية بين التذكير بالماضي والتحذير من المستقبل. فقد وصفت رئيسة البرلمان الأوروبي، روبرتا ميتسولا، المشهد بعبارات حازمة، مؤكدة أن أوكرانيا تقاتل اليوم ليس من أجل أراضيها فحسب، بل من أجل جوهر القيم الأوروبية نفسها: السيادة، الحرية، والديمقراطية. وأضافت أن المهمة الأساسية اليوم، تمامًا كما في الأمس، هي تخليد الذكرى، حماية الديمقراطية، والحفاظ على السلام.
مقارنات تاريخية
في المشهد الرمزي، لا تغيب المقارنات التاريخية. ففي حين تكرّم ألمانيا ضحايا الحرب والطغيان بوضع الأكاليل وتذكّر العالم بتحولها إلى منارة للديمقراطية، تستعد روسيا للاحتفال بيوم النصر في اليوم التالي، من خلال عرض عسكري ضخم في الساحة الحمراء، بقيادة فلاديمير بوتين، في استعادة للخطاب القومي الذي يبرر تدخلاته الخارجية.
ومع أن مراسم الاحتفال تواصلت في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا طوال الأسبوع، فإنها لم تستطع أن تُخفي حقيقة أن أوروبا تعيش لحظة شك عميقة. فالثقة بالحماية الأميركية، التي شكلت العمود الفقري لحلف الناتو، باتت موضع تساؤل، في ظل تغير المزاج السياسي في واشنطن، والتوترات الداخلية المتزايدة داخل الحلف.
حتى الشعب نفسه، لم يعد يُبدي الحماسة ذاتها. فبينما يتصدر الماضي البطولي مشاهد الاحتفالات، لا يمكن إغفال أن الخوف من الحاضر والقلق من المستقبل هما الشعور السائد في العواصم الأوروبية. المخاوف من توسّع الصراع، من تصاعد النزعات القومية، ومن تراجع دور القيم، أصبحت أكثر حضورًا من أصوات الموسيقى العسكرية ومراسم التكريم.