غزة بين الموت البطيء والحصار الخانق.. انهيار النظام الصحي وانعدام الإنسانية

"نحن قريبون جدًا من الهاوية"، بهذه العبارة الجارحة لخّصت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية، مارغريت هاريس، الوضع الصحي الكارثي في قطاع غزة، الذي يعيش واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في تاريخه، بفعل العدوان الإسرائيلي المستمر والحصار الخانق الذي تفرضه سلطات الاحتلال، لا سيما منذ توقف إدخال المساعدات في مطلع مارس الماضي.
نظام صحي يلفظ أنفاسه الأخيرة
المؤشرات الواردة من غزة تؤكد أن القطاع الصحي وصل إلى مرحلة الانهيار شبه الكامل. فوفق تصريحات منظمة الصحة العالمية، فإن المستشفيات أصبحت عاجزة عن استقبال المرضى، وتضطر في كثير من الأحيان إلى معالجة الجرحى في الممرات، وسط نقص حاد في المستلزمات الأساسية، من القطن المعقم وأدوات تعقيم الجروح، إلى المضادات الحيوية وحتى وحدات الدم.
يُقدّر عدد المستشفيات العاملة حالياً بـ21 مستشفى و4 ميدانية، غير أن أيًا منها لا يعمل بكامل طاقته أو يلبي الحد الأدنى من احتياجات المرضى والمصابين. وتقول هاريس إن العاملين في القطاع الصحي "يعملون في الظلام"، مع شح الوقود، وانعدام الأدوات، والضغط الهائل من أعداد المصابين الذين يتوافدون يوميًا.
خطر الأمراض المعدية وسوء التغذية
إلى جانب الجرحى نتيجة القصف، يواجه السكان أمراضًا معدية نتيجة سوء التغذية، نقص المياه الصالحة للشرب، وتكدّس العائلات في أماكن الإيواء غير الصحية. حالات الإسهال، الجرب، وأمراض الجهاز التنفسي أصبحت شائعة، بل مهددة للحياة، خاصة بين الأطفال والمسنين.
كما أن الأطباء باتوا يلاحظون تدهورًا متزايدًا في البنية الجسدية للمرضى، نتيجة المجاعة التدريجية وانعدام الرعاية. المثير للقلق أن الخوف من استهداف المستشفيات – وهو أمر موثّق ومتكرر – جعل كثيرًا من السكان يخشون الذهاب إليها، مما يفاقم حالات يمكن علاجها إلى مستويات خطيرة أو قاتلة.
مساعدات متوقفة.. وشاحنات عالقة
رغم تجهيز منظمة الصحة العالمية مستودعات طبية داخل غزة، وتكدّس 16 شاحنة مساعدات على الحدود، إلا أن الاحتلال يرفض السماح بدخولها، مما يشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، ويجعل من غزة مسرحًا لموت بطيء منظم.
وتؤكد منظمة الصحة أن ما يجري تجاوز مرحلة "أزمة" إلى "كارثة إنسانية ممنهجة"، وهي تعهدت بالبقاء داخل القطاع، ليس فقط لتوفير الحد الأدنى من الرعاية، بل لرصد تفشي الأمراض وتنظيم عمليات إجلاء محدودة للمصابين.
عدّاد الموت لا يتوقف
منذ 7 أكتوبر 2023، وحتى اليوم، تشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى استشهاد 52,535 فلسطينيًا، وإصابة 118,491، معظمهم من الأطفال والنساء. كما تم تسجيل 11 ألف مفقود، يُعتقد أن جزءًا كبيرًا منهم ما زال تحت الأنقاض، حيث تعجز طواقم الإنقاذ عن الوصول إليهم بسبب القصف المستمر.
الاحتلال يوسع رقعة الاستهداف
العدوان لا يقتصر على غزة. في نابلس، أصيب طفل يبلغ من العمر 14 عامًا برصاص الاحتلال خلال اقتحام البلدة القديمة، وأصيب مسن بالرصاص المطاطي، والعشرات بالاختناق. هذه السياسة التصعيدية باتت جزءًا من استراتيجية الاحتلال لتعميم الضغط النفسي والجسدي على كل من يعيش في الأراضي الفلسطينية.
جريمة جديدة في سجون الاحتلال
توفي المعتقل الإداري محيي الدين نجم (60 عامًا) في مستشفى "سوروكا"، بعد اعتقاله منذ أغسطس 2023، إثر ما وصفته منظمات حقوقية بـ"جريمة طبية ممنهجة"، حيث حُرم من العلاج رغم معاناته من أمراض مزمنة. يُضاف نجم إلى قائمة شهداء الحركة الأسيرة، والتي بلغت 303 شهيدًا منذ عام 1967، بينهم 64 منذ بدء العدوان على غزة في أكتوبر 2023.
إدارة السجون، بحسب نادي الأسير، تستخدم الأمراض كسلاح، حيث يتم ترك المعتقلين ينهارون صحيًا دون علاج، في إطار سياسة "القتل البطيء" عبر الإهمال الطبي والتعذيب وسوء المعاملة، وصولاً إلى حرمانهم من أدنى مقومات الحياة.
ما يحدث في غزة يتجاوز وصف "كارثة إنسانية"، ويجب أن يُصنّف كجريمة إبادة ممنهجة أمام العالم، حيث يتم قتل السكان بأدوات متعددة: القصف، الحصار، التجويع، وانهيار النظام الصحي. صمت المجتمع الدولي وتواطؤ بعض القوى الكبرى لا يبرر استمرار هذه الجرائم، بل يساهم في جعل غزة عنوانًا لأكثر فصول القرن الحادي والعشرين ظلمةً ووحشية.