محادثات جنيف بين واشنطن وبكين.. بين أمل خفض الرسوم الجمركية وواقع الصدامات الاقتصادية

رغم ما تبديه الولايات المتحدة والصين من استعداد شكلي للدخول في مفاوضات جديدة في جنيف، فإن خلف هذا التفاؤل السطحي تتراكم مؤشرات تشاؤمية تعكس عمق التوترات الاقتصادية والسياسية بين القوتين الأكبر في العالم. الاجتماعات المرتقبة بقيادة وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، والممثل التجاري جيميسون جرير، ونائب رئيس الوزراء الصيني هي ليفينج، تتزامن مع مرحلة حرجة من الضغوط الاقتصادية المتبادلة، تتخللها حسابات استراتيجية معقدة وشكوك متزايدة في نوايا الطرف الآخر.
أهداف أميركية طموحة بمقابل صيني حذر
تشير تسريبات المصادر إلى أن واشنطن تسعى لخفض الرسوم الجمركية إلى أقل من 60%، وهي خطوة تصفها المصادر بـ"الأولية"، في حين تتمسك الصين برفع القيود عن صادرات المعادن النادرة، التي تُعد أساسية في سلاسل التوريد العالمية، خاصة في مجالات التكنولوجيا والدفاع والطاقة المتجددة. هذه الخطوة توحي بأن الولايات المتحدة تحاول التخفيف من تداعيات الحرب التجارية التي أثقلت كاهل صناعاتها، في وقت تعاني فيه الصين من ضغوط صناعية داخلية وانكماش واضح في صادراتها نحو السوق الأميركية.
محادثات استكشافية أم مناورات تكتيكية؟
ما يُسرب عن طبيعة اللقاءات يُشير إلى أنها ستُعقد في إطار "استكشافي" أكثر من كونها "تفاوضي"، ما يعني أن الطرح الأميركي لا يُنتظر أن يلقى قبولاً مباشراً، بل قد يُستخدم من قبل بكين لتقييم مدى جدية واشنطن واستعدادها لتقديم تنازلات فعلية. هذا الطابع الاستكشافي يوحي بأن الطرفين يختبران الخطوط الحمراء لكل منهما، دون التورط في التزامات مبكرة، خاصة أن الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترمب لا تزال تعتمد نهجاً تفاوضياً قائماً على مبدأ "الضغط أولاً".
اقتصاد متضرر وتوازن هش
تكشف التحليلات الاقتصادية أن آثار الرسوم الجمركية لم تقتصر على الاقتصاد الصيني فحسب، بل امتدت لتُثقل الاقتصاد الأميركي أيضاً، إذ قدرت "بلومبرغ" أن الرسوم الحالية قد تُخفض الناتج المحلي الأميركي بنسبة 2.9%، وترفع الأسعار بنسبة 1.7% خلال السنوات الثلاث القادمة. من جهة أخرى، تسببت هذه السياسات في تراجع صادرات الصين إلى الولايات المتحدة، ما أدى إلى أسوأ انكماش صناعي شهدته الصين منذ أواخر 2023.
إزاء ذلك، أطلقت بكين مؤخراً حزمة دعم اقتصادي، تشمل خفض أسعار الفائدة وتعزيز التمويل للابتكار التكنولوجي، وهي خطوة يمكن تفسيرها كمحاولة لتحسين وضعها التفاوضي قبل جنيف. لكن المسؤولين الصينيين لا يُظهرون تراجعاً أمام التصعيد الأميركي، بل يؤكدون أن المحادثات يجب أن تُبنى على الاحترام المتبادل، وهو ما يعكس صلابة موقفهم رغم الضغوط الاقتصادية.
حسابات سياسية وتوازنات انتخابية
في الخلفية، تحضر الحسابات السياسية بقوة. فالإدارة الأميركية تسعى إلى تعزيز موقعها قبيل الانتخابات، فيما تراهن على ما تعتبره تراجعاً في الاقتصاد الصيني. في المقابل، تتابع بكين تراجع شعبية ترمب في استطلاعات الرأي كمؤشر على ضعف محتمل في موقعه التفاوضي. هذا التباين في التقديرات يزيد من احتمالات سوء الفهم الاستراتيجي، وقد يؤدي إلى تعثر المفاوضات أو حتى التصعيد.
فرصة ضعيفة لاتفاق وشيك
تشير أغلب المؤشرات إلى أن الاتفاق الشامل لا يزال بعيد المنال. فحتى في حال الإعلان عن خفض جزئي للرسوم، فإن ذلك سيبقى خطوة رمزية لن تغير من حقيقة أن العلاقات التجارية الأميركية الصينية باتت مرتهنة بصراع استراتيجي طويل الأمد، عنوانه المنافسة على النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي العالمي.
إن محادثات جنيف تمثل بداية محتملة لمرحلة جديدة من الحوار، لكنها لن تُفضي وحدها إلى كسر الجمود ما لم تُرفَق بتنازلات فعلية، واستعداد سياسي صادق لتجاوز إرث المواجهة السابقة.