طرابلس بين فكي ”الأمن والميليشيات”.. أزمة الاشتباكات الأخيرة وجدلية تفكيك الجماعات المسلحة في ليبيا

أعاد إعلان رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، عبد الحميد الدبيبة، استمرار مشروع "ليبيا خالية من الميليشيات والفساد"، الجدل إلى واجهة المشهد الليبي حول قدرة الدولة على تفكيك البنية المسلحة غير النظامية التي تسيطر على مفاصل العاصمة طرابلس، في ظل هشاشة وقف إطلاق النار وتفاقم الاستقطاب السياسي والمؤسساتي.
وجاء هذا التصريح في خضم تصعيد دموي شهدته طرابلس، عقب مواجهات مسلحة دامية بين فصائل موالية وأخرى مناوئة، أسفرت عن سقوط ضحايا مدنيين وتصدع واضح في التحالفات الأمنية والسياسية داخل الحكومة.
من اشتباك أمني إلى أزمة مشروعية
اندلعت الاشتباكات الأعنف منذ سنوات في طرابلس على خلفية قرار مفاجئ من الدبيبة بتفكيك الجماعات المسلحة، وهو ما فُسّر كإعلان نوايا لإعادة هيكلة التوازنات الأمنية داخل العاصمة، مما أشعل فتيل الصراع بين "جهاز دعم الاستقرار" بقيادة عبد الغني الككلي الملقب بـ"غنيوة"، وبين قوات موالية لرئيس الحكومة.
وتصاعد التوتر عقب مقتل الككلي، أحد أبرز القادة الميدانيين وأحد رموز التشكيلات شبه الرسمية التي نشأت في أعقاب 2011، وتمت شرعنتها لاحقاً في ظل غياب مؤسسات أمنية موحدة. ورغم أن جهاز "دعم الاستقرار" خضع اسميًا لسلطة المجلس الرئاسي، إلا أن نفوذه الميداني وامتداداته الشعبية جعلت منه لاعبًا مستقلاً يصعب تطويعه.
المسار السياسي المتشظي.. الحكومة على حافة التفكك
لم تقتصر تداعيات الأزمة على الميدان الأمني، بل امتدت إلى البنية الحكومية ذاتها، حيث أعلن ثلاثة وزراء استقالاتهم يوم الجمعة تضامنًا مع احتجاجات شعبية نددت بسوء الأوضاع الأمنية وطالبت باستقالة الدبيبة. هذه التطورات تعكس مدى التآكل الذي أصاب شرعية حكومة الوحدة، خاصة في ظل اتهامات لرئيسها بالانفراد بالقرار واستعمال أدوات الدولة لتصفية خصومه ضمن معركة نفوذ لا تتورع عن استخدام السلاح.
وقلل الدبيبة من أهمية الاحتجاجات، واصفًا بعضها بـ"المدفوع الأجر"، في محاولة لتمييز بين التعبير الشعبي الحقيقي وما اعتبره تحريكًا سياسيًا ممنهجًا. هذا الخطاب، وإن بدا متحديًا، يعكس حجم الضغوط السياسية التي تواجهها الحكومة في الداخل والخارج.
تداعيات إنسانية مغيبة
رغم إعلان وقف إطلاق النار يوم الأربعاء، فإن آثار العنف ظلت حاضرة بقوة. فقد كشفت وزارة الداخلية عن العثور على تسع جثث متحللة داخل مشرحة بمستشفى الخضراء في حي أبو سليم، وهو معقل سابق لجهاز دعم الاستقرار. عدم إبلاغ السلطات عن هذه الجثث من قبل جهاز الأمن الوطني يزيد من تعقيد الوضع، ويفتح باب التساؤلات حول الانتهاكات المغلقة والجرائم التي تمر دون محاسبة.
وفي ذات السياق، عبّرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن "قلقها البالغ" تجاه العنف الأخير، داعية لحماية المدنيين والمرافق الحيوية، ولا سيما المستشفيات، وسط مخاوف من تكرار سيناريوهات الفوضى التي عرفتها البلاد مرارًا.
النفط مستقر.. لكن إلى متى؟
وسط هذا الاضطراب، بدا لافتًا إعلان المؤسسة الوطنية للنفط أن "العمليات تسير بشكل طبيعي وآمن"، في محاولة لطمأنة الأسواق وحماية شريان الاقتصاد الوطني. غير أن استمرار الإنتاج في ظل الفوضى الأمنية لا يضمن استقراره، خصوصًا وأن قطاع الطاقة طالما كان ساحة تنافس بين الفصائل المسلحة، وأداة ضغط في يد القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في ليبيا.
تفكيك الميليشيات بين الرغبة السياسية والواقع المسلح
تعكس الأحداث الأخيرة في طرابلس فشلًا متجددًا في إدارة المرحلة الانتقالية، حيث تتقاطع القرارات السياسية الطموحة مع بنية أمنية مفخخة وموروث صراعي لم يتم تفكيكه. وبينما يحاول الدبيبة تسويق صورة "الدولة القوية" القادرة على إنهاء الميليشيات، فإن الاشتباكات الأخيرة أظهرت حدود هذه القدرة، وأعادت التأكيد على أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا فقط، بل سياسي ومؤسساتي بالدرجة الأولى.
يبقى مشروع "ليبيا خالية من الميليشيات" هدفًا ضروريًا لاستعادة الدولة، لكنه محفوف بمخاطر الفوضى ما لم يُصاحبه مسار شفاف لإعادة بناء المؤسسات الأمنية وتوحيدها، في إطار وطني جامع تتوفر له الشرعية والدعم الشعبي والدولي الحقيقي.