اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي
رئيس مجلس الإدارة د. محمد أسامة هارونرئيس التحرير أحمد نصار

بعد سقوط بشار الأسد.. كيف تعيش أسر ضباط نظامه في سوريا الجديدة

بشار الأسد خلال زيارته الأكاديمية العسكرية العليا في دمشق في أكتوبر 2020
بشار الأسد خلال زيارته الأكاديمية العسكرية العليا في دمشق في أكتوبر 2020

كثيراً ما تصدرت عائلات ضباط النظام واجهة المجتمع السوري بوصفهم "أسياد مجتمع"، من زوجات وأبناء منتظمين في المجتمع المدني والأهلي والمحلي، والسمسرة والوساطات وما تجره من التعالي والتباهي، إذ كانوا يحظون بامتيازات هائلة تجعلهم قادرين على العيش خارج سياق الحرب في حال منفصلة عن الواقع، فكيف باتوا يواجهون المجتمع اليوم بعد سقوط النظام؟ خصوصاً بعدما عانوا النبذ والملاحقة والعار، بعضهم تعرض للثأر ومنازلهم وقصورهم الفارهة تعرضت للسطو من دون حماية مجتمعية أو سلطوية فصاروا معزولين داخل حيزهم الجغرافي الأضيق ومعظمهم فضل العودة إلى قراهم، ترافق ذلك أحياناً مع ممارسات انتقامية واغتيال معنوي، فكيف يتعاملون مع مجتمع يحملهم إرث ما اقترفوه، وهل ظهرت مبادرات لحمايتهم أم كان العنوان هو التشفي منهم بعدما وجدوا أنفسهم على أقصى الهامش هابطين بسرعة البرق من أعلى درجات سلم السلطة إلى أدنى طبقات المجتمع المكروهة؟ فهل هذا ما جناه أرباب أسرهم عليهم، أم إنهم بعدما نالوا حظهم الوفير من المجد والسلطة من دون اكتفاء، اختلقوا لأنفسهم مظلوميات جديدة؟

السلطة الناعمة

بداية يجب التمييز بين نوعين من عائلات الضباط العاملين، فغالبية الضباط الذين كانوا يعيشون على الهامش مع أسرهم ولم يكن لهم دور فاعل أو بارز بشكل واضح إضافة للرتب الصغيرة، هؤلاء طواهم الفقر كغيرهم، وهم الذين لم يقاتلوا في المعركة الأخيرة دفاعاً عن بشار قبل سقوطه، ويقابلهم ضباط تمكنوا من أن يصبحوا أمراء حرب وسادة مجتمع مع امتداد عائلاتهم، وجلهم كان يتبع تنظيمياً للاستخبارات بما يلحق بها من عشرات الأفرع أو المواقع الحساسة في الجيش كالتعيينات وشؤون الضباط والموارد والإدارات وقيادة الفرق والعمليات والقضاة العسكريين وغيرهم أو في تلك الأماكن الإضافية التي تسمح لهم ببناء شبكة نفوذ وعلاقة واسعتين تتداخل فيهما السلطة مع المال.

حال أسر هؤلاء الضباط لم يكن أمراً طارئاً أو عبثياً أو ممتداً على أوهام تتعلق بالترف المجتمعي العابر، بل قام الأمر على منظومة كاملة من السلطة الرديفة التي كان أول من سمح بنسجها ضمن إطار القوى الناعمة لضمان الولاءات العائلية هو حافظ الأسد. وتدخلت تلك القوى في أدق وأبسط تفاصيل حياة السوريين اليومية لعقود، وتبلورت خلال الحرب السورية (2011-2024). في حال هؤلاء لم يقتصر النفوذ المباشر على الضباط أصحاب المناصب والرتب بل تخطاهم نحو زوجاتهم في المقام الأول، ومن ثم أبنائهم، فبقية العائلة وصولاً لدرجات قرابة أبعد، فالضرب بسيف السلطة كان شغفاً لدى السوريين، وثبت أنه لا يزال شغفاً حتى بعد سقوط النظام.

تلك العائلات التي نالت حظها في عهد الأسدين شكلت شبكات محكمة للسمسرة والوساطات وتسيير المصالح مقابل المنفعة المادية أو الاجتماعية، لأن البعض كان يتباهى بتقديم الخدمات من منطلق مركز القوة أكثر ما يكون آبهاً في مرحلة ما بما سيظفر به مادياً لقاء خدمته أو خدماته، إذ إن البعض وصل مرحلة بات لا يعلم فيها ما يملك من المال والقصور والبيوت والسيارات. هذه العائلات تنبهت إلى ضرورة انتظامها أكثر في الحياة المدنية بعيداً من المناصب العسكرية التي شغلها أو يشغلها الزوج أو الأب، فتمددوا نحو معظم مؤسسات المجتمع المدني، بل إنهم حتى تمددوا نحو منظمات المجتمع الدولي، إذ يعلم السوريون أن التوظيف في كثير من الأحيان في منظمات الأمم المتحدة العاملة في سوريا، كان يتم بناء على الواسطة ومدى أهميتها. وليكن الأمر أوضح كان يكفي اتصال من ضابط متنفذ أو أحد أفراد أسرته للمسؤول في الخارجية عن ملف المنظمات لطلب توظيف أحدهم، وكان يتم الأمر بسلاسة.

كانت هذه الشريحة تعيش في حال ذهان وانفصال فعلي عن الواقع في سياق من الغطرسة المستمدة من فيض القوة، ضمن الحدود التي تختلف بين ضابط وآخر تبعاً لمكانته وأهميته، وفي السياق الأبعد عائلياً كانوا يتنعمون بمجرد ذكر أسمائهم وعائلاتهم ليحظوا بامتيازات تبدو تافهة أحياناً، كدخول حفلة مغلقة أو عدم دفع فاتورة مطعم، وهنا يجب مراعاة أن هذه الأسر نشأت من العدم، ورغم امتلاكها كل تلك الأموال لاحقاً فإنها لم تستطع الخروج من البيئة التي جاءت منها، فبدا لها أن كل شيء يمكن فعله مهما بدت صعوبته كمثل نقل ضابط جيش صغير إلى الأمن ليصير مهماً، ومن ثم يحققون هنا مكسباً إضافياً بازدياد الولاء لهم كأسر تعيش على هامش السلطة فتوسع عبر تمددها وتدخلاتها المتشعبة من امتيازاتها وسيطرتها على مرافق حيوية وأساسية ضمن الحيز المتاح بما فيه الأسواق التجارية وما ينعكس على يوميات الناس المباشرة.

المحيط العام ملكية شخصية

يرى المحلل السلوكي فايز دربولي في إطار تحليل سلوك هؤلاء الأشخاص الذين لا يقبعون مباشرة في السلطة لكنهم يعتاشون على أمجاد من هم في السلطة من أزواج وآباء وأقارب بأنهم كانوا يتعاطون مع المحيط العام كملكية شخصية غير قابلة للانتزاع، وذلك الشعور نتيجة حتمية حيال القدرة على العطاء والمنع، عبر التفوق في الوصول إلى المسؤولين، والتدخل في أمور لا تعنيهم، وإملاء الأوامر، والاستعراض المبالغ به للقوة بالاستناد إلى الغطاء الأمني المتوافر لهم عبر أقاربهم.

ويتابع دربولي، "سرعان ما انتظموا في اللعبة وفهموا مفاتيحها، فنقل ضابط من الجيش الذي كان يخدم به بلا صلاحيات أو امتيازات إلى الاستخبارات من دون مقابل سيجعل من هذا الشخص مديناً لهم على الدوام ومنفذاً لرغباتهم في عموم الجهة التي يعمل بها (الفرع الأمني)، ومن ثم التوسع في تقديم الخدمات الأمنية يضمن الديمومة في استمرار القوة حتى في حال أحيل صاحب المنصب الأصلي الذي تستمد منه العائلة قوتها إلى التقاعد، حيث يكون قد زرع في كل مكان شخصاً مديناً له ولأسرته، فحتى اليوم ثمة أسر لا تزال تحظى بمكانتها الاجتماعية المرموقة والفاعلية ذاتها رغم تسريح مصدر قوتها (رب الأسرة)". ويضيف "أنا شخصياً أعرف لواء في الأمن ورغم إحالته إلى التقاعد قبل أعوام طويلة فإن كلمته لا تصير اثنتين حين يطلب أمراً هو أو أسرته حتى فترة سقوط النظام، هذه العائلات تتمدد وتتشابك مع المجتمع بطريقة بلورية فائقة الحساسية والإتقان، ويبدو ذلك من الجهد المتراكم خلال الخبرة التي غنموها من التعامل مع الناس، متغلغلين خارج أسوار المؤسسة العسكرية نحو الفضاء العام بما فيه من مؤسسات مدنية وجامعات وجمعيات خيرية ومؤسسات إعلامية ونواد ترفيهية، إلخ".

معادلة الولاء المطلق

زاهي حسون ضابط خدم برتب عقيد وسُرح تعسفياً عام 2009 إثر خلاف بنيوي مع قائده المباشر أفضى لإحالته إلى التحقيق وانتزاع مجمل صلاحياته منه بل وحبسه على ذمة التحقيق، يقول إن "نظام بشار كان مهترئاً ومخترقاً بخلاف نظام والده الذي كان من حديد، فبشار لم يكن مهتماً جداً بالتعيينات العسكرية التي تتم على مستوى الرتب الوسطى والصغرى، أي إنه لم يهتم ببناء الهرم من قاعدته، فسمح لعائلات الأمنيين والضباط بإدارة شؤون البلاد ضمن حدود رسمها بصورة واضحة داخل معادلة الولاء المطلق للزعيم الأوحد ومن بعدها كل شيء قابل للنقاش".

ويشرح، "ذلك سمح للعائلات تلك ببناء نظام اقتصادي واجتماعي خاص كان يتخطى دور السلطة نفسها أحياناً في النطاق الداخلي. كانت عائلات المحظيين والأقوياء تتعامل مع المحيط بوصفها مصدر قوة مستقل يدور في فلك نظام قمعي أعلمهم مسبقاً بالمسموح والممنوع. وما بدا تنفيذه هائلاً، كخدمات من نسوة الضباط مثلاً لأشخاص آخرين، بات اعتيادياً. وعلى الدوام كنا نفاجأ بنقل ضباط إلينا من مواقع بعيدة جداً عن أسلوب عملنا وكانوا يبدون غرباء عن طبيعة العمل ولا يفقهون شيئاً في شؤون تخصصنا ولا يأخذون أو يريدون منها سوى الزهو والمفخرة، وأن يتحولوا من شخص يطلب واسطة إلى شخص تطلب واسطته، وهؤلاء كانت تنقلهم ببساطة أم فلان ما زوجة الضابط النافذ الفلاني باتصال".

كأحجار الدومينو

خلال أعوام حكم بشار تزايدت سطوة أبناء الضباط كثيراً، بعدما كانت محدودة أكثر على زمن والده ومراقبة أكثر، ففي عهد بشار سيطر هؤلاء على البناء والتجارة والصناعة والاستيراد والتصدير وإدارة الموارد الأساسية بالطبع من دون أن يلتهموا حصة السلطة، إذ يراهم كثر أدوات موثوقة لتنفيذ الجباية الحكومية من دون خلل، وكان ذلك النفوذ اجتماعياً وثقافياً وفنياً أيضاً، وكانوا يحافظون على طقس إقامة الحفلات والمناسبات الاجتماعية بصورة دورية تعبيراً مستمراً عن الثراء والسلطة والجاه، وكانت تحضر تلك الحفلات أعلى القيادات العسكرية والأمنية مع عائلاتهم، مما يضفي مزيجاً إضافياً من إمكانية بناء علاقات شراكة واستثمار واتحاد تتيح لهم التوسع في إدارة الشأن العام معنوياً ونفسياً ومالياً.

وكأحجار الدومينو أو بناء من ورق سقط كل ذلك المجد الأخاذ في ليلة واحدة مع تغير المشهد السياسي والعسكري السوري بسقوط النظام، فانكشف هؤلاء الناس أمام المجتمع مرة واحدة، خصوصاً من لم يتمكن من الهرب خارجاً. انحسار سطوة السلطة والمناخ العام المشحون بالكره والضغينة والتوتر جعلهم عراة أمام الآخرين في لحظة حساب طال انتظارها، لحظة حساب لم يعد ممكن معها بأي شكل الاحتماء بالماضي القريب أو البعيد، فحتى مدير إدارة الاستخبارات الجوية العامة اللواء إبراهيم حويجة الذي خدم مديراً للإدارة بين عامي 1987 و2002 قبل أن يتقاعد اعتقل قبل شهر تقريباً من قبل السلطة الجديدة لأسباب تتعلق بماضيه المليء بالجرائم. وكان واضحاً من سياق الأحداث كم أن المجتمعات الصغيرة والأحياء المتناثرة والقرى تحمل ذاكرة جمعية مشتعلة بما تعرضت له من قهر وظلم وأسى وإقصاء بسبب هؤلاء وأسرهم.

لم يمتلك أفراد عائلات هؤلاء الضباط وقتاً لترتيب أوراق هربهم، ليس الجميع بالطبع، لكنهم في ليلة وضحاها تحولوا إلى مصدر قلق وإزعاج لرفاقهم المدنيين السابقين، فكثر تخلوا أو تبرؤوا من صداقاتهم بل ومن معرفتهم أصلاً، وأغلقت في وجههم أبواب كثيراً ما كانت مفتوحة على مصراعيها، وباتوا خارج إطار المقام الاجتماعي الموروث فكرة وأصلاً وهدفاً وسبباً وبلا حماية ونفوذ وأصدقاء.

العزلة الاجتماعية

في حي أبورمانة الشهير وسط دمشق، الذي كان لعقود حكراً على باهظي الثراء والأمنيين تعيش ميادة، زوجة أحد ضباط الأمن العسكري الفارين، وتقول إحدى جاراتها إنهم ورغم الأمان داخل العاصمة، فإن زوجة الضابط تحاول ألا تخرج من المنزل ما أمكن، تخاف ذلك، خصوصاً أن الجيران يتجاهلونها، ترمي السلام ولا أحد يجيب، والباعة عزفوا عن البيع لها. وتضيف، "كانت تركب أفخم السيارات في وقت يبحث المواطن عن وسيلة نقل لتوصله بكل ما فيها من إذلال معنوي ومادي، كانت تركب سيارات ممنوعاً علينا أن نركبها كعامة الشعب ومن الأصل ممنوع استيرادها، ولكن كان يحق للأمن ما لا يحق لغيره، كانت تبدل كل يوم سيارة، وكل واحدة أجمل من سابقتها، تأمر وتنهى وتصرخ على المرافقة والحرس، الآن هي منبوذة من كل المحيط بعد هرب زوجها وأولادها إلى جهة غير معلومة مع سقوط النظام".

وبالطبع ليست ميادة حالة فريدة من نوعها، فمثلها الآلاف من زوجات الضباط، أم عامر حالة مشابهة، تقطن في منطقة مشروع دمر الراقي بدمشق، وهي أرملة لضابط في القوات الخاصة، بعيد سقوط النظام وتكشف الأوراق علم كثير من السكان أن زوجها اضطلع بدور كبير في ملف تسريب أسماء للاعتقالات من أبناء حي قدسيا وضاحية قدسيا القريبتين، ومنذ سقوط النظام لم يطرق أحد باب بيتها بعدما تخلى عنها جميع الأقارب ورفاق الأمس بحسب الجوار.

النظرة المجتمعية

لم يتمكن المجتمع السوري من فصل نظرته ما بين ضباط النظام وزوجاتهم، ولا أن يراهن نساء مفجوعات بمظلوميات انحدرت بهن إلى القاع بعد سني المجد الطويل على حساب الدم الفقير، كما يعدهن كثيرون، شريكات في جهاز القمع العام والتشبيح الممنهج في ظل ذروة المجازر التي كانت ترتكب في المدن والبلدات والقرى على أيدي أزواجهن.

"حين كان أولادنا في المعتقلات، حين كانت تضيع سني مراهقتهم وشبابهم ودراستهم، كان أولادهن في أفضل وأفخم مدارس العاصمة، فكيف سنغفر كل ما مضى، وكيف نعدهن ضحايا وهن الشريكات بملء إرادتهن وقوتهن العقلية؟"، تقول سميرة سلامة وهي سيدة تنحدر من منطقة القابون في ريف دمشق، وهي المنطقة التي دمرها النظام عن بكرة أبيها بالقصف المركز خلال أعوام الثورة.

وفي حي الزاهرة الدمشقي كان يقيم أحد ضباط الأمن السياسي الذي وافته المنية قبل نحو عامين، لكن عائلته لم تغادر الحي، ظلت بحسب أحد القاطنين هناك تمارس التشبيح والبلطجة على الناس الذين كانوا يحتفلون سراً بموت زوجها. ويضيف "كيف سننسى دروس الوطنية التي كانت توزعها علينا كل صباح مع فيض المزايدات الذي ما كان ينتهي، مستخدمة على الدوام لازمة 'لولا الرئيس ما طهر البلد من هؤلاء الإرهابيين، وما كان أحد منكم قادر حتى على أن يتنفس'، وهؤلاء الذين كانت تصفهم بـ'الإرهابيين' كانوا أولادنا. الآن لا تلقى منا إلا نظرات الاحتقار والازدراء".

لم يقبل مجتمع ما بعد الثورة عدم تحميل تلك النسوة إرث ما اقترفه أزواجهن من مجازر واعتقالات وبناء شبكات وإمبراطوريات مالية على دم وحساب الفقراء، إذ يرون فيهن امتداداً لإرث دموي ثقيل عمره من عمر الحرب، وفي حين لم تظهر أي مبادرة اجتماعية لمساعدتهن، بل على النقيض، ازددن عزلة اجتماعية ومقاطعة من الجوار، وصلت إلى حد مقاطعة من لا يزال على تماس معهن.

الإرث الثقيل

باتت عائلات الضباط السابقين مع انتصار الثورة في وسط دائرة الشك والتهم واللفظ الشعبي والحقد المجتمعي، وسرعان ما تغيرت النظرة إليهن من سيدات وزوجات إلى شريكات راضيات بما حصل من جرائم تحت نفوذ وسطوة أزواجهن الغارقين في الدماء، فكان تحمليهن مسؤولية الصمت عن الدماء بمثابة اغتيال معنوي لا مناص منه.

في حي المزة بدمشق تم طرد زوجة أحد الضباط المرتبطين بسجن صيدنايا بعد أسبوع من سقوط النظام، هذا ما أخبره صاحب البقالة المجاورة لمنزلها، أحمد الجارش، بعدما عزف هو وجيرانه عن التعامل معها، مجبرين إياها على الفرار الطوعي من منزلها مع طفليها تحت جنح الظلام.

تقيم هنادي مولى التي تعمل باحثة اقتصادية في حي كفرسوسة الدمشقي الذي يعد المربع الأمني للعاصمة، ففيه أهم الإدارات والشعب الاستخباراتية ومنازل الضباط المتنفذين، وتقول "تلك النسوة بتن مكروهات وملفوظات من الجوار بعد التحرير، لقد كن يعتشن على حساب آلامنا وأوجاعنا ولا يبلين بمهانة الناس وإذلالهم إلى أن ذقن مرارة العزلة والانتقام المعنوي فصرن يهاجرن واحدة تلو الأخرى نحو قراهن أو مناطق لا يعرفهن فيها أحد. تلك النسوة إما أرامل لضباط سابقين أو متقاعدين أو هاربين أو مطلوبين أو معتقلين، ولكن إرث النخوة السوري لا يسمح للناس بمهاجمتهن وانتهاك أعراضهن كما كان يفعل أزواجهن. وهنا لا أنفي وقوع حالات هجوم في أحياء وقرى أخرى من سوريا، ولكنني أتحدث بالعموم المطلق، إذ اخترنا أن يكون العقاب لمثل هؤلاء هو العزلة وهي أشد من القتل".

البحث عن مظلومية

رولا اسم مستعار لزوجة ضابط كان يخدم في أمن الدولة بدمشق، تقيم في حي المالكي الأعرق بالعاصمة، تقول إنه "منذ سقوط النظام والأفرع الأمنية حوصرت في منزلي بين جدرانه الأربعة، أحاول ألا أغادر المنزل، فالناس تصفني بزوجة القاتل، كتبوا على حائط منزلي الخارجي هذا بيت المجرم، ورغم ذلك لم يهاجم أحد منزلي باستثناء أنه تعرض للتفتيش مرتين، حيث أقيم مع بناتي الثلاث اللاتي لم أعد أرسلهن إلى المدرسة خشية عليهن من أي حدث غير متوقع، كانت تصلني رسائل شماتة كثيرة، كلها تقول: أنت شريكة، أنت صامتة، أين كنت يوم كنا نموت جوعاً وأنت تفاخرين بلباسك العالمي وذهبك اللماع وسياراتك الباهظة وحراستك المخيفة؟".

لم تقبل أي من زوجات الضباط السابقين الإدلاء بشهادتها باسمها الصريح، لكن عدداً منهن وافق على الحديث عموماً منطلقين من مبدأ البحث عن مظلومية لا تربطهن بأفعال أزواجهن، سواء الأحياء منهم أو الذين قتلوا أو توفوا بشكل طبيعي في فترات سابقة.

"نغم" وهو اسم مستعار آخر لسيدة أربعينية تقطن في ضاحية قدسيا بدمشق وكانت زوجة لضابط في الاستخبارات الجوية قبل أن يقتل في عملية أمنية للمعارضة، تقول، "لقد تلقينا تهديداً بمصادرة منزلنا، ومن ثم جاء أشخاص للاستحواذ عليه فحاولت منعهم والتبيان لهم أنه لا علاقة لي بما حصل، فكانت أجوبتهم على شاكلة 'اليوم أصبحت بريئة بعدما باركتي مراراً على الملأ جرائم زوجك وتباهيت بعدد من قتلهم من الثوار؟' أخذوا المنزل ولا أعرف بعهدة من صار الآن، أخذوا ذهبي، كسروا أثاثه، شردونا، ’نفذت بروحي’ إلى بيت أهلي في قرى صافيتا التابعة لمحافظة طرطوس بأعجوبة، الحمد لله أنني لم أقتل في لحظات الغضب تلك".

ليسوا ضحايا جانبيين

"ربا" ابنة أحد ضباط الأمن السابقين في حمص لم تكن تتوقع بحسب روايتها أن يأتي اليوم الذي يسقط فيه النظام، "كان والدي ضابطاً جباراً، يحكم المنطقة المكلف بها بقبضة من النار والحديد، الناس كانت تهابنا وتخاف إزعاجنا أو مضايقتنا، الناس كانت تفسح الطرقات لمواكبنا، اليوم صرنا مكروهين ومنبوذين ولا تقبل لنا توبة، صار لقبي حتى في الأوساط التي كانت مقربة يوماً 'ابنة السفاح'".

كان "كنان" الشاب الثلاثيني فخوراً على الدوام بوالده القائد العسكري الكبير في حلب، كان وحده يملك موكب سيارات كلها مصادرة من عامة الشعب، وبعد سقوط النظام بات مع والده وإخوته مطلوبين للعدالة، حتى إنه تلقى تحذيرات جدية من مقربين منه قالوا له، "لو لم تتمكن من الهرب من حلب أنت ووالدك قبل تحريرها لكنا جعلناكم عبرة للناس".

وكمثل ربا وكنان حال "وردة" ذات الـ29 عاماً وابنة أحد ضباط الحرس الجمهوري، القوة الضاربة في الجيش السوري السابق، والتي كانت على حد وصفها فخورة على الدوام بوالدها مصدر المال والنفوذ والعز والجاه والقوة والسلطة. تقول "كانت الناس تسعى فقط للتقرب من والدي والعيش في كنفه ونعيمه، كيف انقلبوا علينا بهذه السرعة لا أعرف، يتهموننا أننا كنا نتقاضى أموالاً لقاء خدمات يقدمها والدي، أليست البلد كلها تسير هكذا، هل كنا استثناء؟ لقد هربنا جميعاً".

في أحياء معظم المدن السورية أجبرت كثير من هذه العائلات على الفرار، ليس لأنهم أبرياء، بل لارتباطهم بمنظومة القتل الطويلة، تلك العائلات التي اعتاشت على هامش النظام واستولت على أملاك وأموال الفقراء، وجعلت البلد بلدين، واحداً للفقراء وآخر للأثرياء، اليوم يدفعون الثمن هاربين نحو مناطق جاءوا منها أساساً، نحو منبتهم الأصلي، إلى حيث قد توجد بيئة ربما تتعاطف معهم، أو لا تزعجهم في الأقل. وبذلك يكون هذا جزءاً من الحساب الشعبي، وليس جزءاً من العدالة الانتقالية المعطلة، التي كلما طال أمد تنفيذها دخلت سوريا أكثر في أتون تجاذبات مقلقة.

موضوعات متعلقة