حرب إيران.. مقامرة نتنياهو الأخيرة لاستعادة الشعبية المفقودة

في لحظة بدت كأنها بوابة لسلامٍ محتمل، اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قراراً قلب المعادلة: رفض تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي جاء بوساطة مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب. الاتفاق، الذي أسفر عن إطلاق سراح عشرات الأسرى مقابل مئات المعتقلين الفلسطينيين، كان مقدمة لإنهاء أطول الحروب دموية بين إسرائيل وغزة. غير أن نتنياهو، الذي لطالما وُصف بالمراوغ السياسي المحترف، قرر الاستدارة نحو التصعيد.
الانسحاب من التهدئة.. قرار محفوف بالعواقب
كان من المفترض أن يُتوج الاتفاق بانسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من غزة وإطلاق المزيد من الأسرى، في خطوة لاقت ترحيباً حذراً من الفلسطينيين والإسرائيليين المنهكين من الصراع. لكن إعلان نتنياهو استئناف العمليات العسكرية تحت شعار "القضاء التام على حماس"، أنهى آمال ملايين في التهدئة، وفتح الباب أمام اتهامات داخلية بأنه يضع مصالحه السياسية فوق سلامة الأسرى الإسرائيليين والمدنيين في غزة.
الرفض لم يأتِ دون ثمن سياسي. ارتفعت حدة الانتقادات، لا سيما من عائلات الأسرى الإسرائيليين، التي رأت في القرار خيانة صريحة لمطالبها. وبدأت استطلاعات الرأي تُظهر تراجعاً حاداً في شعبية نتنياهو، بالتوازي مع تفكك تحالفه الحكومي الهش، القائم على دعم أحزاب يمينية ودينية متشددة.
مقامرة النووي.. نصرٌ تكتيكي أم مخرجٌ سياسي؟
بعد ثلاثة أشهر، بدا أن نتنياهو يحاول تعويض الفشل في غزة عبر "نصر خارجي" أكثر إبهاراً: ضربة عسكرية نوعية ضد البرنامج النووي الإيراني، وُصفت بأنها غير مسبوقة. ورغم التشكيك الدولي في نتائجها الفعلية، استغلها رئيس الوزراء لتقديم نفسه مجدداً كحامي إسرائيل، ولوّح بإمكانية التوجه إلى انتخابات مبكرة بدعوى اكتمال "المهمة الوطنية".
لكن حتى هذه الورقة لم تُنعش شعبيته كما توقع. أظهر استطلاع حديث نشرته صحيفة معاريف أن 59% من الإسرائيليين يفضلون وقف القتال مقابل استعادة الأسرى، فيما اعتبر 49% أن استمرار الحرب مدفوع باعتبارات نتنياهو السياسية. في كنيست منقسم لا يمكن لأي حزب منفرد تأمين أغلبية فيه، يبدو أن زعيم الليكود لا يملك طريقاً واضحاً للبقاء في السلطة دون تحالفات صعبة.
الخطر الحقيقي.. الفساد والقانون لا الحروب
التهديد الأكبر لنتنياهو لا يأتي من حماس أو طهران، بل من قاعة المحكمة. خلال أيام، يمثل للمحاكمة بتهم تتعلق بالفساد، تشمل الرشوة وخيانة الأمانة. وعلى الرغم من محاولاته المتكررة لتأجيل الجلسات بحجة الأزمات الأمنية، رفضت المحكمة العليا طلباته الأخيرة. وقد أدّى ذلك إلى موجة من الغضب لدى المعارضة ومؤسسات العدالة، التي ترى في تصرفات نتنياهو محاولات صارخة للتهرب من القانون.
وبينما انقسم الداخل الإسرائيلي حول عدالة المحاكمة، زاد التدخل الخارجي الأمور تعقيداً. فقد خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لطالما دعم نتنياهو، بتصريحات مربكة، يطالب فيها بإلغاء محاكمته أو منحه عفواً، ما اعتبره معارضو نتنياهو تجاوزاً فاضحاً لاستقلال القضاء الإسرائيلي.
البروفيسور تامار هيرمان من معهد الديمقراطية الإسرائيلي يصف هذه المرحلة بـ"اختبار الثقة"، ويقول إن نتنياهو فقد رصيده السياسي لدى قطاعات واسعة من الجمهور، مشيراً إلى أن نسبة الذين يثقون به حتى جزئياً لا تتجاوز 50%. ويضيف أن قرار التوجه إلى انتخابات جديدة قد يكون "مقامرة أخطر من مهاجمة إيران"، لأن نتائج الداخل لا يمكن التنبؤ بها، على عكس العمليات الخارجية.
المشهد الإقليمي والدولي.. عزلة وتبعات قضائية
سياسياً، يواجه نتنياهو ضغوطاً دولية متزايدة. فالمحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات توقيف بحقه ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب في غزة، حيث ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين إلى أكثر من 56 ألف منذ بداية الحرب. وبينما تنفي إسرائيل الاتهامات بشدة، يتصاعد الضغط الحقوقي على تل أبيب، خاصة في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ما يهدد مكانتها الدولية.
سياسة على حافة الهاوية
رغم تاريخه السياسي الطويل، وحنكته في بناء التحالفات وتفادي السقوط، يبدو أن نتنياهو اليوم في واحدة من أكثر اللحظات هشاشة في مسيرته. إنه يقف على مفترق طرق: إما أن يواصل خوض المعارك الخارجية والداخلية في وقت واحد، أو أن يُجبر على مغادرة المسرح السياسي، مثقلاً بتركة من الحرب، والانقسام، وقضايا الفساد.
في كل الأحوال، تُظهر الأزمة الحالية أن إسرائيل لا تمر فقط بأزمة عسكرية أو سياسية، بل بأزمة ثقة عميقة بين السلطة والمجتمع، وبين القانون والسياسة، وبين الحرب والسلام.