رباط الكرد معركة على بوابة التاريخ.. الحصن المملوكي في مرمى التهويد لطمس هوية القدس القديمة

في قلب البلدة القديمة من القدس، وعلى مرمى حجر من باب الحديد، أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك، ينتصب رباط الكرد، المعلم الإسلامي التاريخي الذي أسّسه القائد المملوكي سيف الدين كرد في القرن السابع الهجري (الـ13 الميلادي). كان الرباط محطة للعلماء والحجاج والمرابطين، ومعلماً معمارياً يمثل امتداداً وظيفياً وروحياً لسور المسجد الأقصى.
لكن ما كان عبر سبعة قرون ملاذًا للعلم والتقوى، أصبح اليوم ساحة لصراع شرس بين هوية المكان وواقع الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى عبر أدوات القوة والتهويد التدريجي إلى إعادة تشكيل الذاكرة الحضرية والروحية للقدس، بدءًا من النقاط الضعيفة أو المهملة نسبيًا، كـ"رباط الكرد".
الاختراق التدريجي.. من الحفريات إلى الطقوس اليهودية
بدأت الأزمة تأخذ طابعًا علنيًا ومتسارعًا في السنوات الأخيرة. فسلطات الاحتلال، تحت ذريعة "الترميم" أو "إزالة الطمم"، اقتحمت موقع الرباط وأزالت ما تبقى من الدعامات الحديدية التي كانت قائمة منذ عام 1971، وتم وضعها لمواجهة تصدعات نتيجة حفريات الاحتلال المتواصلة.
جوهر الحدث ليس في الإزالة بحد ذاتها، بل في النية المعلنة وغير المعلنة: تغيير وظيفة المكان وتحويله من وقف إسلامي إلى ساحة لصلوات يهودية مرتبطة بمشروع "المبكى الصغير"، وهو امتداد تهويدي لساحة البراق.
المعلومات الواردة من سكان الرباط، وخاصة خضر موسى الشهابي الذي تمثل عائلته امتدادًا تاريخيًا للحراس والسكان المرابطين، تكشف كيف بدأت المعركة بشكل "هندسي"، ثم تحولت إلى حرب دينية – سياسية تستهدف فرض واقع ميداني جديد في محيط الأقصى، وتحويل الرباط إلى منصة طقوسية مرتبطة بالرواية الإسرائيلية حول "الهيكل المزعوم".
الأدوات الإسرائيلية
سارعت سلطات الاحتلال إلى استخدام أدوات القانون الإسرائيلي لفرض السيطرة:
منع الترميم بزعم عدم وجود تصريح.
إشراك جماعات دينية متطرفة (مثل الحاخام يوسي أولوفير) في إجراءات قضائية تهدف إلى إلغاء الوقف الإسلامي.
تسهيل اقتحام المتدينين اليهود للمنطقة لأداء طقوس السبت والأعياد، تحت حراسة شرطة الاحتلال، في مشهد يكرر سيناريو باب المغاربة.
الهدف المعلن هو ربط "المبكى الصغير" بـ"المبكى الكبير" (حائط البراق)، وتوسيع النفوذ اليهودي على كامل الجدار الغربي للمسجد الأقصى، باستخدام تقنيات "فكي الكماشة" عبر بوابات باب السلسلة وباب الغوانمة.
تهويد متعدد المستويات
ما يحدث في رباط الكرد لا ينفصل عن مشروع أشمل يهدف إلى إعادة هندسة المشهد المقدسي:
عمرانيًا: عبر الحفريات والأنفاق والربط بين المرافق القديمة والأحياء اليهودية المستحدثة.
وظيفيًا: بتحويل المرافق الوقفية من سكن وعلم وضيافة إلى مرافق شعائرية يهودية.
سرديًا: بإعادة تسمية المواقع، كما حدث حينما أُلصق مصطلح "المبكى الصغير" على الرباط، وطمس اسم "حوش الشهابي" الذي يحمل هوية مقدسية عميقة الجذور.
مخاطر استراتيجية.. طمس وهوية وتهجير
تشير تصريحات المستشار الإعلامي لمحافظة القدس معروف الرفاعي إلى أن التهويد في رباط الكرد ليس حالة منفصلة، بل يشكل حلقة من مشروع طويل الأمد يهدف إلى:
إغلاق باب الحديد كما أغلق باب المغاربة سابقًا.
هدم الرباط بالكامل على غرار تدمير حارة المغاربة عام 1967.
تهجير العائلات الفلسطينية من الحوش (18 عائلة/100 فرد)، في سياسة تطهير تدريجي.
مدّ الأنفاق تحت أساسات الأقصى، وهو تهديد وجودي للمسجد وبنيته التاريخية.
رد الفعل الإسلامي والحقوقي
رغم التحذيرات الصريحة من اليونسكو – مثل قرارات المجلس التنفيذي رقم 199 و200 (2016) وقرار لجنة التراث العالمي رقم 39 (2015) – والتي تعتبر القدس القديمة والأقصى تراثًا إسلاميًا خالصًا، إلا أن إسرائيل تواصل تجاهلها للقانون الدولي، متذرعة بالسيادة الأمنية أو الأحقية الدينية.
الهيئات الإسلامية في القدس ترى أن ما يحدث هو انتهاك صارخ للوضع التاريخي والقانوني، يندرج ضمن مخطط ممنهج لفصل المسجد الأقصى عن امتداداته الوقفية والتاريخية، وخلق واقع ديموغرافي وروحي جديد في البلدة القديمة.
صراع الهوية والمكان في القدس القديمة
ما يجري في رباط الكرد يتجاوز حدود "معلم أثري" أو نزاع عقاري. نحن أمام نقطة اشتباك بين التاريخ والهوية، بين الذاكرة والطمس، بين الحق القانوني والرواية المفروضة.
إن التهويد المتدرج لهذا الموقع التاريخي يهدد بتحويله من محطة للرباط في سبيل الله إلى منصة لتكريس رواية دينية استيطانية، تفصل المسجد الأقصى عن روحه المعمارية والاجتماعية، وتستبدل السردية الإسلامية العريقة برواية استعمارية ملفقة.