من الاعتراف الدولي إلى المساءلة الجنائية.. فلسطين بين شرعية التمثيل وملاحقة الجناة

شهدت الساحة الدولية تطورين مفصليين في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعكسان تحوّلين متوازيين في مسارات النضال الفلسطيني: أحدهما على مستوى الاعتراف الدولي والتمثيل السياسي، والآخر على مستوى المساءلة القانونية والمحاسبة الجنائية.
فلسطين تترسخ كـ"دولة مراقبة" في منظمة العمل الدولية
في خطوة غير مسبوقة منذ أكثر من خمسين عامًا، قررت منظمة العمل الدولية، وبالإجماع، رفع تمثيل فلسطين من "حركة تحرر وطني" إلى "دولة مراقبة غير عضو".
ويُعد هذا القرار تحولًا نوعيًا في موقع فلسطين ضمن المنظومة متعددة الأطراف، حيث لم يُمنح هذا الوضع لأي كيان مماثل منذ عقود، ويأتي في سياق متماهي مع الاعتراف بفلسطين كدولة مراقبة في الأمم المتحدة منذ 2012.
القرار، الذي يُنتظر أن يُعتمد رسميًا في الجلسة العامة لمؤتمر العمل الدولي الـ113 في جنيف، لا يحمل فقط بعدًا بروتوكوليًا، بل يفتح أمام فلسطين أبوابًا مؤسسية واسعة في المنظمة، منها الحق في إلقاء البيانات، تقديم المقترحات، والمشاركة الفاعلة في الاجتماعات الثلاثية التي تضم الحكومات، النقابات، وأرباب العمل.
كذلك، يُتيح لفلسطين اعتبارًا من عام 2026 ترشيح مندوبين لمكتب المؤتمر، ما يكرّسها كفاعل دولتي ضمن المنظومة العمالية الدولية.
السلطة الفلسطينية رحبت بهذه الخطوة، معتبرة إياها انتصارًا دبلوماسيًا يعزز من مكانتها كدولة تحت الاحتلال، ويعكس تراجعًا ضمنيًا في القبول الدولي برواية اختزال القضية الفلسطينية في سياق "نزاع داخلي" أو "حرب أهلية طويلة الأمد". وهو ما يُعد تقدمًا معنويًا ومؤسساتيًا على طريق تأكيد الهوية القانونية والسياسية للدولة الفلسطينية.
كندا تفتح تحقيق جنائي بحق جنود إسرائيليين
في تطور قضائي غير مسبوق، أعلنت الشرطة الملكية الكندية عن فتح تحقيق جنائي هو الأول من نوعه ضد جنود يحملون الجنسية الكندية شاركوا في العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة. التحقيق الذي بدأ سريًا منذ عام 2024، يُسلّط الضوء على أفراد خدموا ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي، سواء كانوا من الجنود الاحتياطيين، أو من "الجنود الوحيدين" الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية بالضرورة، ولكنهم تطوعوا للقتال ضمن الجيش.
ويستند التحقيق إلى برنامج كندي مختص بمكافحة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تديره مؤسسات رسمية كبرى. هذا البرنامج يعكس التزامًا متزايدًا من كندا بتطبيق مبادئ القانون الدولي الإنساني، ويُعيد طرح سؤال بالغ الحساسية: هل يمكن للدول الغربية أن تحاسب مواطنيها الذين يشاركون في عمليات قد تُعد خرقًا للقانون الدولي خارج حدود بلادهم؟
هذا التحرك القضائي الكندي، وإن كان لا يزال في مراحله الأولية، يعكس بداية تغير في المزاج القانوني الدولي، ويفتح الباب أمام آليات دولية لملاحقة مرتكبي الانتهاكات في غزة، حتى ضمن دول تُعد تقليديًا من حلفاء إسرائيل. وهو ما أثار قلقًا داخل الجالية اليهودية في كندا وبعض الدوائر الإسرائيلية التي تخشى من صدور مذكرات توقيف مستقبلية بحق من خدموا في الجيش الإسرائيلي.
بين الاعتراف والمحاسبة.. لحظة فلسطينية مركبة
هذان التطوران، واحد دبلوماسي والآخر قضائي، يضعان القضية الفلسطينية في لحظة مركبة: من جهة، تواصل فلسطين تثبيت شرعيتها كدولة تحت الاحتلال تُطالب بحقوقها السيادية داخل المحافل الدولية، ومن جهة أخرى، تنفتح أمامها نوافذ قانونية غير تقليدية لمحاسبة من يرتكب جرائم بحق شعبها.
إن الاعتراف المتنامي بفلسطين ككيان سياسي ذي صفة قانونية، بالتوازي مع تزايد المبادرات الدولية للتحقيق في جرائم الحرب، يقدمان معًا ملامح لتغير تدريجي في بنية التعاطي الدولي مع الصراع. لم يعد الأمر محصورًا في الخطابات السياسية أو الإدانة الرمزية، بل بدأ يتسلل إلى عمق المؤسسات الدولية التي يمكن أن تُحوّل "الاحتلال" من واقع سياسي إلى جريمة قانونية قابلة للملاحقة.
ووسط استمرار العدوان على غزة وتدهور الأوضاع الإنسانية، فإن هذه التحولات تمثل من وجهة نظر الفلسطينيين ليس فقط بارقة أمل، بل مؤشراً على بداية تشكّل مسارات جديدة قد تُغير من قواعد اللعبة الدولية تجاه الصراع الأطول في الشرق الأوسط.