نزيف العقول.. أوروبا تفتح أبوابها لعلماء أميركا الهاربين من سياسات ترامب

في مشهد يعيد تشكيل خريطة القوى الأكاديمية العالمية، تسعى دول أوروبية بقيادة فرنسا وبريطانيا إلى استقطاب العقول الأكاديمية من الولايات المتحدة، مستغلةً التراجعات الكبيرة في تمويل البحث العلمي التي أقرتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. صحيفة وول ستريت جورنال سلّطت الضوء على هذا التحول الكبير، مشيرة إلى أن خطوات ترامب نحو خفض أو تجميد الدعم الفيدرالي للأبحاث، خصوصًا تلك المرتبطة ببرامج التنوع أو القضايا الحساسة سياسيًا، دفعت الآلاف من العلماء إلى التفكير بالهجرة أو فقدان وظائفهم.
أوروبا كملاذ بديل
الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لم يضيعا الفرصة. أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، أعلنت عن إنشاء صندوق بقيمة 575 مليون دولار لتحويل أوروبا إلى "مركز عالمي للباحثين". بريطانيا رصدت 75 مليون دولار لتسهيل انتقال العلماء إلى جامعاتها، في حين وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمنح 115 مليون دولار إضافية لاستقبال الباحثين الأجانب، قائلاً:
"إذا كنتم تحبون الحرية، تعالوا وساعدونا على أن نبقى أحرارًا، وابنوا مستقبلنا معنا."
مفارقة تاريخية
هذا التحول يعكس مفارقة مثيرة. فبعد أن كانت أوروبا في قلب المشهد العلمي العالمي لقرون، تراجعت مكانتها بعد الحرب العالمية الثانية لصالح الولايات المتحدة التي جذبت أفضل العقول الأوروبية عبر تمويل سخي واستقرار سياسي. واليوم، تعود القارة العجوز إلى واجهة الجذب الأكاديمي، لكن هذه المرة نتيجة تآكل البيئة العلمية في أميركا من الداخل.
بيئة مقلقة في أميركا
تشير البيانات إلى أن آلاف العلماء الأميركيين فقدوا منحهم أو وظائفهم منذ تولي ترامب، الذي ربط قرارات تقليص التمويل بالتحقيق في إساءة استخدام الأموال أو مكافحة "التحيز الأيديولوجي". إلا أن مبررات إدارته لم تقنع المجتمع الأكاديمي، الذي يرى أن ما يجري هو تضييق على حرية البحث، وفرض رقابة سياسية غير معلنة.
وتؤكد الأكاديمية راشيل بيتي ريدل من جامعة كورنيل أن القرارات السياسية باتت تؤثر على ما يمكن قوله ونشره في الأوساط البحثية، مضيفة:
"هذا يتخلل كل قرار يتخذه الأكاديميون بشأن ما يرغبون في قوله علناً وأنواع البحوث التي يرغبون في نشرها."
عروض أوروبية مغرية.. لكن بتكلفة
رغم جاذبية العروض الأوروبية، إلا أنها لا تخلو من التحديات. فمرتبات الباحثين في أوروبا تقل كثيرًا عن نظيرتها الأميركية – أحيانًا إلى النصف أو الثلث. لكن تعويضًا عن ذلك، تقدم معظم الدول الأوروبية خدمات صحية وتعليمية مجانية، إضافة إلى انخفاض تكاليف المعيشة نسبياً.
من جانبها، أعلنت جامعة إيكس مرسيليا الفرنسية أنها استقبلت 300 طلب من باحثين عالميين – كثير منهم من جامعات مرموقة مثل هارفارد وييل وبرينستون – ضمن برنامجها "مكان آمن للعلوم". بينما خصصت جامعة بروكسل الحرة زمالات بقيمة 3 ملايين دولار لدعم الباحثين القادمين، خاصة من الولايات المتحدة.
حرب على المواهب
الوزير الهولندي للتعليم والثقافة إيبو بروينز، الذي اقترح مبادرة لجذب العلماء الأميركيين إلى الجامعات الهولندية، وصف المشهد بدقة حين قال:
"هناك حرب على المواهب تدور عالمياً، وهي آخذة في التفاقم."
لكن رغم هذه الجهود، يشير بعض المحللين، مثل جيمس ويلسدون من جامعة لندن، إلى أن هذه البرامج الأوروبية قد لا تكون كافية لإحداث تحوّل بنيوي طويل الأمد، بسبب طابعها المؤقت أو محدودية ميزانياتها، مؤكداً أن "الاستقرار والتخطيط طويل الأجل هو ما يحفز العلم حقاً".