اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي
رئيس مجلس الإدارة د. محمد أسامة هارونرئيس التحرير أحمد نصار

ضربة بلا دخان.. حين تقصف أميركا المشروع النووي الإيراني دون أن تهتز المؤشرات

المشروع النووي الإيراني
المشروع النووي الإيراني

في لحظة مفصلية من التصعيد الإقليمي، وجّهت الولايات المتحدة ضربة جراحية مركّزة استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية رئيسية: نطنز، فوردو، وأصفهان. قُدمت الضربة إعلاميًا على أنها دقيقة ومدروسة، لكن خلف ستار "الدقة العسكرية" ظهرت علامات استفهام أكثر خطورة من آثار التفجير نفسه: كيف يمكن استهداف منشآت نووية عالية التحصين ومليئة بالمواد المشعة، من دون تسجيل أي تسرّب إشعاعي داخلي أو خارجي؟ ولماذا ساد الصمت من جميع الأطراف المعنية، بما فيها طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية؟


لفهم الصورة الكاملة، يجب العودة إلى بنية البرنامج النووي الإيراني، القائم أساسًا على مبدأ السرية والتشتيت. موقع فوردو، أحد الأهداف التي ضُربت مؤخرًا، لم يكن معروفًا أصلًا قبل عام 2009، حين كشفته أجهزة استخبارات غربية بمحض الصدفة. منذ ذلك الحين، أصبح الغموض جزءًا عضويًا من البنية لا مجرد أسلوب، مما يجعل تقييم الأضرار الناجمة عن الضربة الأخيرة أمرًا بالغ الصعوبة.


بحسب تسريبات وزارة الدفاع الأميركية، استُخدمت قنابل خارقة للتحصينات من طراز GBU-57 "الماصّة للخرسانة"، وصواريخ توماهوك موجهة بدقة عالية. الأهداف لم تكن مفاعلات نشطة أو خزانات الوقود المشع، بل البنية التحتية الداعمة للعملية النووية: أنظمة التبريد، محطات الطاقة الفرعية، ورش الصيانة، ومرافق التحكم في الطرد المركزي. المقصود من هذه الدقة لم يكن فقط تفادي كارثة بيئية، بل رسم حدود جديدة للردع: شلّ جزئي للقدرة، دون الدخول في حرب شاملة.


الضربة لم تكن عسكرية بحتة، بل محسوبة ضمن معادلة سياسية داخلية أميركية أيضًا. عشية انتخابات مرتقبة، تسعى واشنطن لاستعراض عضلاتها العسكرية دون تورط طويل الأمد، مما يمنح الإدارة نقاطًا انتخابية من دون مغامرات دموية.

الخسائر الفعلية


أما طهران، فكانت كعادتها أكثر دهاءً في إدارة المشهد الإعلامي. تجاهلت الحديث عن الخسائر الفعلية، وامتنعت عن نشر صور أو بيانات تفصيلية، مكتفية بتصريحات غامضة عن "أضرار طفيفة" و"انتهاك للسيادة". وبالمثل، جاءت تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية باهتة وغير محددة، مما فتح الباب واسعًا أمام التأويلات: هل لم تُمنح الوكالة صلاحية التفتيش؟ أم أن ما رأته كان محرجًا لدرجة أنه لا يُكتب في التقارير؟
هنا تبرز فرضية يردّدها مراقبون غربيون: أن إيران كانت على علم بالضربة قبل وقوعها، وقد سبقتها بسحب أو تفريغ الوحدات الحساسة من المواقع المستهدفة. إشارات عديدة تدعم هذه الفرضية، مثل أعمال الحفر في جبال زاغروس، أنفاق كاشان الجديدة، وتراجع النشاط داخل بعض المنشآت خلال الأسابيع التي سبقت القصف. ما يشي بأن طهران تتبع استراتيجية "النسق المتعدد"، حيث لا يتمركز البرنامج النووي في موقع واحد، بل يتوزع كشبكة عصبية قابلة للتجدد.


الخطر الحقيقي إذًا ليس في ما ضُرب، بل في ما لم يُضرب بعد. ما زالت هناك مواقع بديلة، وربما أكثر تقدمًا، تعمل في الظل. ومن المحتمل أن الضربة الأميركية، رغم ما أحدثته من صدى، لم تطل القلب النابض للبرنامج النووي الإيراني، بل أطرافه الخارجية فقط.


الرسالة التي قد تخرج بها طهران من هذه الجولة قد تكون مزدوجة: من جهة، قدرة الردع الأميركي ما زالت قائمة. ومن جهة أخرى، قدرة النظام الإيراني على المناورة والمخادعة والتخفي ما زالت حية. لا عجب إذًا أن تبقى أجهزة الطرد المركزي تدور في مكان ما تحت الأرض، بصمت مطبق، لتراكم المزيد من وحدات التخصيب، استعدادًا للجولة التالية… والتي قد تكون أقل هدوءًا، وأكثر تكلفة.