بريطانيا والاستثمار في الفوضى.. الإمبراطورية التي أعادت إنتاج نفسها

في خضم تصاعد الصراع الإيراني–الإسرائيلي، وبينما تنشغل القوى الإقليمية بإعادة تموضعها على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، تبرز بريطانيا كلاعب غير مرئي، لا يطلق الرصاص لكنه يخطط لمساره. فبريطانيا، التي طالما وصِفت بـ"المستعمر العجوز"، لم تغادر فعليًا المنطقة. لقد اكتفت بإعادة صياغة حضورها، متنقلة من الاحتلال الصريح إلى الهيمنة الرمادية، مستثمرة في كل شرارة توقد نارًا جديدة في الشرق الأوسط.
لم يعد النفوذ البريطاني يُقاس بعدد الجنود أو حجم القواعد العسكرية، بل أصبح يُقاس بمدى القدرة على التأثير في مجرى الأحداث من خلف الستار. تشير معطيات أمنية واستخباراتية إلى دور بريطاني بارز – وإن غير مُعلن – في تغذية حلقات التوتر بين طهران وتل أبيب، خاصة عبر ما يُعرف بتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الحلفاء الغربيين. وقد أُلمح إلى أن لندن كانت طرفًا في نقل بيانات دقيقة حول المنشآت النووية الإيرانية، مما منح إسرائيل قدرة نوعية على تنفيذ ضربات انتقائية داخل العمق الإيراني.
تعاون استخباراتي
ولا تقتصر أدوات بريطانيا على التعاون الاستخباراتي. فهناك حديث متكرر عن مستشارين أمنيين بريطانيين ناشطين في طهران والقاهرة، إلى جانب استخدام مؤسسات إعلامية ومراكز بحثية ومنظمات مجتمع مدني كواجهات ناعمة للتأثير والتجنيد وبثّ السرديات. وهي أدوات ذات سجل طويل في عمليات النفوذ والتخريب السياسي، لا سيما في البيئات الهشة أو القابلة للاختراق.
تبدو قاعدة "دييغو غارسيا" نموذجًا فاقعًا للنفوذ البريطاني غير المباشر. هذه القاعدة، التي تديرها واشنطن لكن تحت السيادة البريطانية، أعيد تفعيلها مؤخرًا في خضم التصعيد الإقليمي. فقد تم رصد نشاط لطائرات B-2 القادرة على تنفيذ ضربات استراتيجية دقيقة، ما يعيد للأذهان دور القاعدة في حروب الخليج وأفغانستان. ورغم أن الأوامر تُنفذ أمريكيًا، إلا أن توفير القاعدة بحد ذاته يُعد مساهمة بريطانية مباشرة في إدارة الصراع دون ترك أثر علني.
الحياد المتحيز
إعلاميًا، تمارس بريطانيا شكلًا متطورًا من "الحياد المتحيز"، أو ما يمكن تسميته بـ"الحياد القاتل". فالروايات الإسرائيلية تُمرر بسلاسة عبر منصات إعلامية بريطانية عريقة، فيما يُهمّش صوت الضحايا المدنيين في غزة، ويُتجاهل السياق الحقيقي للضربات المتبادلة. تُعاد صياغة الأحداث بما يخدم فكرة "إسرائيل المدافِعة" و"إيران المعتدية"، وهو نسق خطاب يعيد إنتاج وجهة النظر الغربية دون مساءلة حقيقية.
في جوهرها، لا تسعى بريطانيا إلى إشعال حرب كبرى – فهي تعلم أن الفوضى المنضبطة أكثر نفعًا من الحرب الشاملة – لكنها تساهم في خلق بيئة مضطربة تسمح بإعادة صياغة التوازنات. شركات السلاح، وشبكات الطاقة، ومراكز النفوذ الجيوسياسي البريطاني، كلها تستفيد من مناخ السيولة هذا. ومنذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، تسعى لندن لإعادة تموضعها كقوة عالمية، حتى لو كان ذلك عبر استثمار طويل الأمد في مناطق مشتعلة.
في النهاية، بريطانيا ليست في الخلفية. إنها في قلب اللعبة، وإن ارتدت قناع الظل. لا تُرسل جيوشًا، لكنها ترسل معلومات، ولا تعلن تحالفاتها، لكنها تمرر سرديات، ولا تقصف، لكنها تُقدّم المنصات. إنها الإمبراطورية التي لم تمُت، بل أعادت تصميم نفسها لتواكب عصر ما بعد الاستعمار، وتواصل الإمساك بالخيوط من بعيد.