أزمة تسريب الخطط الإسرائيلية لضرب إيران.. قراءة تحليلية في دوافع ومآلات الحكم على محلل CIA

في قضية تعكس التوترات المعقدة بين الأمن القومي، والشفافية، والاضطرابات الجيوسياسية، حُكم على محلل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، آصف رحمن، بالسجن ثلاث سنوات وشهر واحد، بعد اعترافه بتسريب وثائق سرية للغاية تتعلق بخطط عسكرية إسرائيلية محتملة لضرب إيران. هذه القضية، التي كُشف النقاب عنها في توقيت شديد الحساسية من التوترات الإقليمية، فتحت باب التساؤلات حول دوافع التسريب، تأثيراته الاستراتيجية، ومدى هشاشة المؤسسات الاستخباراتية في مواجهة الاضطرابات النفسية والسياسية داخل كوادرها.
أولاً: تفاصيل الحادثة الأمنية
بدأت خيوط القضية تتضح عندما ظهرت وثيقتان سريتان للغاية على قناة عبر "تلغرام" تُدعى Middle East Spectator، في أكتوبر 2024، تضمنتا تفاصيل دقيقة عن تدريبات جوية وتحركات عسكرية إسرائيلية في أحد المطارات، تتسق مع مؤشرات التحضير لضربة ضد منشآت إيرانية. كانت الوثائق صادرة عن "الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية"، أحد أكثر أجهزة الاستخبارات دقة في الرصد والتحليل.
سرعان ما انتشرت الوثائق على منصات التواصل الاجتماعي، ما دفع إسرائيل إلى تأجيل خطط الهجوم، في خضم تصاعد التوتر مع إيران، التي كانت قد أطلقت قبلها بأسابيع نحو 200 صاروخ على أهداف إسرائيلية، ردًا على اغتيالات استهدفت قيادات من "حماس" و"حزب الله". التسريب، إذاً، لم يكن مجرد خرق أمني، بل تدخُّل غير مباشر في معادلة الردع الإقليمي، وعرقلة محتملة لعملية عسكرية دقيقة.
ثانيًا: رحمن.. بين الطموح والانهيار
آصف رحمن، البالغ من العمر 34 عامًا، لم يكن نموذجًا تقليديًا للجواسيس أو الخونة. وُصف بأنه عبقري أكاديمي؛ خريج جامعة ييل، ومتفوّق دراسي، وسبق له أن ترك وظيفة مربحة في القطاع المالي لينضم إلى "السي آي إيه" بدافع وطني. غير أن سيرته حملت في طياتها هشاشة داخلية ظهرت لاحقًا.
أشارت تقارير الدفاع إلى أن رحمن مرّ بأزمات نفسية حادة، منها تجربة مأساوية خلال مهمة في بغداد، بالإضافة إلى فقدانه جنين زوجته، ثم انتقاله بمفرده إلى كمبوديا، حيث تم تتبّعه وتحليل نشاطاته من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي رصد تحميله الوثائق السرية على جهاز في السفارة الأميركية هناك.
ثالثًا: محاكمة سياسية أم ردع أمني؟
رغم طلب فريق الدفاع الاكتفاء بعقوبة مخففة مدتها عام وشهر، معتبرين أن موكّلهم لم تكن لديه نية خبيثة بل دافع قلقه من تصعيد الشرق الأوسط، أصرّت المحكمة على الحكم بالسجن لثلاث سنوات وشهر، في رسالة واضحة بأن النوايا الشخصية لا تبرّر الخيانة المؤسسية.
القاضية الفيدرالية باتريشيا توليفر جايلز وصفت السلوك بأنه بالغ الخطورة، مؤكدة أن تسريب المعلومات يعرض الأمن القومي للخطر، ويهدد سلامة الحلفاء. وبالفعل، فإن قرار إسرائيل تأجيل خططها العسكرية – كما كشفته مصادر استخباراتية – يُعد من أخطر آثار التسريب، إذ أعطى طهران وقتًا لإعادة التموضع وتفادي الضربة.
رابعًا: البعد الجيوسياسي
التوقيت الذي جرى فيه التسريب – خريف 2024 – كان يشهد ضغوطًا أميركية متزايدة على إسرائيل لتجنّب ضرب المواقع النووية الإيرانية. التسريب، بحسب مراقبين، قد يكون ساهم في تكبيل يد إسرائيل سياسيًا، ودعم موقف إدارة بايدن المتردد في خوض تصعيد إقليمي. وهنا يطرح التسريب سؤالًا: هل كان مجرد انفعال فردي، أم انعكاسًا لانقسامات داخل مؤسسات الأمن الأميركية تجاه السياسة الخارجية في الشرق الأوسط؟
خامسًا: دروس استخباراتية وأمنية
الهشاشة النفسية للعناصر الاستخباراتية: تُعيد القضية تسليط الضوء على ضرورة تعزيز برامج الدعم النفسي داخل المؤسسات الاستخباراتية، خاصة للعاملين في بيئات شديدة التوتر.
أمن المعلومات داخل البعثات الدبلوماسية: قيام رحمن بتنزيل الوثائق من كمبوديا يكشف عن ثغرات في منظومة المراقبة التقنية للمواقع الدبلوماسية.
دور وسائل التواصل في الحروب الحديثة: لا يمكن تجاهل دور "تلغرام" وغيره من المنصات في تسريع نشر المعلومات السرية وتحويلها إلى أداة ضغط سياسية فورية.