اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي
رئيس مجلس الإدارة د. محمد أسامة هارونرئيس التحرير أحمد نصار

الهيمنة الهادئة.. تحليل النفوذ الأميركي في الخليج وتكتيكات التربص الإيراني

دمار
دمار

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، رسّخت الولايات المتحدة وجودها في منطقة الخليج العربي، ليس فقط كمصدر حيوي للطاقة، بل كمسرح متكامل لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية وفق رؤيتها الجيوسياسية. لم تتعامل واشنطن مع الخليج كمجرد حليف، بل كمخزن استراتيجي للطاقة، وسوق دائمة لصناعاتها الدفاعية، ومنطقة متقدمة لمراقبة واحتواء خصومها التاريخيين: أولًا الاتحاد السوفيتي، ثم إيران، واليوم الصين.


أبعاد النفوذ الأميركي: تركيب معقّد يتجاوز الظاهر


النفوذ الأميركي في الخليج ليس خطًا مستقيمًا من القواعد والتحالفات، بل شبكة متشابكة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية، تمتد عميقًا في البنية الداخلية للدول الخليجية. فمن خلال تحالفات استراتيجية واتفاقيات أمنية طويلة الأجل، تعزز واشنطن حضورها، لكنها في الوقت ذاته تدير تأثيرها الخفي على مراكز القرار المحلي عبر دعم نخب بعينها، وتفعيل أدوات ناعمة مثل البعثات التعليمية، وتمويل مراكز الأبحاث، والإعلام الدولي الموجّه.
تبدو الولايات المتحدة أحيانًا كمن يمنح الحلفاء حرية الحركة، لكنها لا تتوانى عن فرض "الخطوط الحمراء" عندما يقترب الخليج من مناطق تمرد قد تمس مصالحها. الأمن، بقاء الأنظمة، التوازنات الداخلية، وحتى محاولات الإصلاح، تبقى كلها محكومة بسقف أميركي قد لا يُرى، لكنه يُشعر.


الاقتصاد: الهيمنة من بوابة البترودولار


اقتصاديًا، تقع الدول الخليجية في قلب منظومة مالية تقودها واشنطن وتُحكم قبضتها عبر "نظام البترودولار"، حيث يُربط بيع النفط عالميًا بالدولار الأميركي. هذه العلاقة تجعل أي محاولة جادة للخروج من العباءة الاقتصادية الأميركية أشبه بالمستحيل دون ثمن جيوسياسي باهظ. فكل محاولة لتنويع الاقتصاد، أو التحرر من التبعية، تصطدم بحقيقة أن الأموال الخليجية المُستثمرة في وول ستريت لا تُشكّل فقط شراكة، بل تمثل أيضًا ورقة ضغط مزدوجة؛ واشنطن تحتفظ بها كضمان أمن، والخليج كدرع استثماري.


الوجود العسكري: الحضور العلني والتلويح بالقوة


أما عسكريًا، فلا تخفي أميركا وجودها، بل تتباهى به كعلامة على صدارتها الأمنية للمنطقة. من الأسطول الخامس في البحرين، إلى قاعدة العديد في قطر (التي يجري إعادة هيكلتها حاليًا)، إلى القوات المتمركزة في الكويت والطائرات في قاعدة الظفرة الإماراتية، تبدو منطقة الخليج أشبه بمنظومة أمن قومي أميركي خارج الحدود. الصفقات العسكرية التي تصل إلى عشرات المليارات تُترجم إلى اعتماد دائم، يجعل أي بديل — حتى إن وُجد — غير مضمون النتائج.


إيران: استراتيجية اللعب في المناطق الرمادية


في مقابل هذا النفوذ الواسع، تتحرك إيران بطريقة معاكسة تمامًا، لا تعتمد على السيطرة المباشرة، بل على استغلال التناقضات وبناء النفوذ غير المرئي. طهران تدرك حدود القوة الأميركية، وتعرف أن المواجهة المباشرة خاسرة، لذا تُفضل اللعب في الظلال. صاروخ حوثي يُطلق على منشأة نفطية سعودية، توتر مفاجئ في مضيق هرمز، دعم لحملات إعلامية تُشكك في "السيادة الخليجية"، كلها أدوات محسوبة بدقة ضمن استراتيجية "الضغط بالتنقيط".
إيران، عبر أذرعها الممتدة في العراق واليمن وسوريا ولبنان، لا تسعى لتفجير الوضع، بل لإرباكه. تهاجم المصالح، لا الجيوش. تضرب الأعصاب، لا الجسد. وتنتظر. تعلم أن واشنطن في مرحلة اختبار ولاءات جديدة، وتحاول تقليص تكاليف وجودها، مما يفتح نوافذ تسلل قد لا تُغلق سريعًا.
لعبة الزمن: أميركا تعيد التموضع، وإيران تتربص
أميركا، وقد فهمت تكتيكات إيران النفسية، لا تُخطط للانسحاب من الخليج، بل لإعادة انتشاره. هي الآن تراجع تحالفاتها، تختبر موثوقية الشركاء، وتُعيد تعريف أولوياتها في ظل تحولات عالمية كبرى. لكنها تعلم أيضًا أن أي فراغ—even لو مؤقت—قد يمنح طهران فرصة لملء المشهد تدريجيًا. ليس لتقويض النفوذ الأميركي كليًا، بل لاختراقه وتآكله من الداخل.


من جانبها، تُجيد إيران إدارة التوازن فوق الحبل. لا تهاجم مباشرة، ولا تنسحب نهائيًا. فكل تصعيد مفرط قد يفتح أبواب مواجهة لا ترغب بها الآن، وكل تراجع يُضعف صورتها أمام حلفائها في "محور المقاومة" وأمام جمهورها الداخلي. لذا، تختار المساحات الرمادية، وتُراهن على الوقت.