من فرجينيا قديماً إلى كاليفورنيا الآن.. النظام الفيدرالي الأمريكي في أصعب اختباراته

شهدت مدينة لوس أنجليس خلال الأيام الأخيرة توترات متصاعدة على خلفية تحركات حكومية اتحادية اعتبرتها السلطات المحلية تعدياً على صلاحياتها الدستورية، وبينما كان الحدث الظاهري هو التعامل مع تدفق المهاجرين غير النظاميين، إلا أن جوهر الأزمة عكس انقساماً أعمق بين سلطات الولايات والحكومة الفيدرالية، لتعود إلى الواجهة تساؤلات عن حدود السيادة المحلية ودور المركز.
في مشهد يعيد للأذهان تجاذبات أمريكا القرن التاسع عشر، استدعت الحكومة الفيدرالية عناصر من الحرس الوطني دون تنسيق رسمي معلن مع حكومة الولاية، ما أثار احتجاجات من مسؤولين محليين طالبوا باحترام النظام الفيدرالي الذي يكفل للولايات قدراً كبيراً من الاستقلال، وقد جاءت هذه الخطوة عقب موجة من التوترات السياسية والقانونية بشأن قضايا الهجرة وسياسات الأمن الداخلي.
يُعيدنا ذلك المشهد إلى القرن التاسع عشر، حين كانت ولاية فيرجينيا في قلب الجدل الفيدرالي الأمريكي، وكانت واحدة من الولايات التي تحدّت السلطة الفيدرالية دفاعاً عن "حقوق الولايات"، وهو المفهوم الذي شكّل أحد أعمدة الخطاب الجنوبي المؤدي إلى الحرب الأهلية عام 1861.
آنذاك، رأت بعض الولايات أن لها الحق في الانفصال أو مقاومة القوانين الفيدرالية التي لا تنسجم مع مصالحها المحلية، خصوصاً ما يتعلق بالاقتصاد والعبودية. واليوم، وعلى الرغم من تغيّر السياق التاريخي والاجتماعي، إلا أن روح النزاع الفيدرالي لا تزال تنبض في قرارات عدد من الولايات، من فيرجينيا المحافظة إلى كاليفورنيا التقدمية.
ففي كاليفورنيا، تصطدم سياسات الولاية الليبرالية – في مجالات مثل الهجرة، المناخ، والضرائب، بتوجهات واشنطن المحافظة في ظل الإدارة الجمهورية، ما يطرح تساؤلات عن حدود النفوذ الفيدرالي ومدى استقلالية التشريع المحلي.
ويبدو أن النزاع الحالي، رغم كونه أقل دراماتيكية من مشهد ما قبل الحرب الأهلية، يتخذ طابعاً مؤسسياً، فالمحاكم الفيدرالية تُستدعى للفصل في قوانين أقرّتها المجالس المحلية، والكونغرس يلوّح أحياناً بقطع التمويل الفيدرالي للولايات التي "تتحدّى" الخطوط الفيدرالية الحمراء.
من هذا المنظور، لا تعد العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات مسألة إدارية فقط، بل هي جزء من جدل أوسع حول مفهوم الأمة الأمريكية نفسها: هل هي كيان موحد تديره سلطة مركزية قوية، أم اتحاد طوعي بين كيانات سياسية متساوية السيادة؟
في هذا السياق، يبدو أن تجربة فيرجينيا القديمة تعيد نفسها بشكل معكوس في كاليفورنيا الحديثة. فبينما كانت فيرجينيا تطالب بالحفاظ على قيم الجنوب التقليدية ضد تدخل المركز، تسعى كاليفورنيا الآن لحماية قيمها التقدمية من ذات التدخل، وفي كلا الحالتين، القضية المركزية هي "الحدود التي لا ينبغي للسلطة الفيدرالية أن تتجاوزها".
من الناحية الدستورية، لطالما كانت المحكمة العليا الأمريكية المرجع الأسمى في تفسير العلاقة بين السلطة الفيدرالية وسلطات الولايات. ففي أحكام محورية مثل قضية "ماكولُك ضد ماريلاند" (عام 1819)، التي أرست فيها المحكمة مبدأ تفوق القوانين الفيدرالية على قوانين الولايات في حال التعارض، لكنّها أبقت للولايات نطاقاً واسعاً من التشريع الذاتي ما لم يتعدَّ على "المصلحة الوطنية العليا".
ومع اتساع قضايا مثل الهجرة والتغير المناخي، ظهرت تحديات جديدة أمام هذه الصيغة، فبعض الولايات – وعلى رأسها كاليفورنيا – سنّت قوانين محلية تتحدى توجهات فيدرالية، مستندة إلى "عقيدة السيادة الولائية" المستندة للمادة العاشرة من الدستور، وهنا تتداخل الشرعية السياسية مع الاجتهاد القضائي، وتحتدم المواجهة على أرضية قانونية بالغة التعقيد.
تُظهر تجارب اتحادية حديثة مثل ألمانيا وكندا قدرة أكبر على إدارة الخلاف بين المركز والأقاليم من خلال مجالس تنسيق فدرالي أو محاكم دستورية عليا، خففت من حدة التصادم السياسي. أما في الولايات المتحدة، فلا يزال الصدام بين السلطة الفيدرالية وسلطات الولايات يُختبر غالباً في ميادين السياسة والإعلام، قبل أن يُفصل فيه قانوناً.
وبينما تراقب لوس أنجليس الميدان، وتُحصي خطوات الحرس الوطني، يبقى السؤال الأعمق معلقاً: هل يمرُّ النظام الفيدرالي الأمريكي، الذي صمد قرنين، بأصعب اختباراته؟ أم أن مرونته هي سرّ بقائه حتى في أعتى الأزمات؟