اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي

الضم الزاحف.. كيف تحوّلت الضفة الغربية إلى مختبر للسيادة الإسرائيلية؟

تهجير
محمود المصري -

مع اشتعال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، انطلقت بالتوازي حربٌ صامتة على الضفة الغربية، لا تسيل فيها الدماء يومياً كما في غزة، لكنها تستهدف الجغرافيا والديموغرافيا، وتُعيد رسم حدود السيطرة والهوية، تحت غطاء الحرب الكبرى.
إسرائيل، التي طالما راوغت في إعلان نواياها تجاه الضفة، استغلت انشغال العالم بالدمار في غزة، لتكثّف من سياساتها الاستيطانية، وتسرّع خطوات الضم الفعلي، دون الحاجة إلى إعلان رسمي.

الطرق أولاً.. ثم الجدران


المشهد في الضفة تغيّر. لم يعد الغائب لأشهر قادراً على التعرف على الطرقات أو مداخل القرى. شبكات طرق سريعة مخصصة للمستوطنين فقط، تقطع أوصال البلدات الفلسطينية وتعزلها، كما حدث في بلدة سنجل التي فُصلت عن طريقها الحيوي (طريق 60) بجدار معدني. أما بلدة حوارة في نابلس، فقد شُطرت إلى نصفين بأسلاك شائكة.


الجسور العلوية والبوابات الإلكترونية التي تنفتح وتغلق بإمرة جنود الاحتلال، باتت جزءاً من المشهد اليومي.

النائب المحلي في سنجل، بهاء فقهاء، يصف الجدار الجديد بأنه "مفتاحٌ للضم"، إذ إنه لا يعزل القرية فقط عن شريان حياتها، بل يمهد أيضاً لاستيلاء المستوطنين على أراضيها، مثل الموقع الأثري "بير التل" الذي بات نقطة ارتكاز استيطاني جديدة.

هذه الإجراءات ليست عبثية ولا مؤقتة، بل هي جزء من هندسة استراتيجية واضحة: فصل الفلسطينيين عن أراضيهم، وخلق واقع جديد يجعل من العودة للتسوية السياسية أمراً مستحيلاً.
ترمسعيا، القرية المحاطة بالمستوطنات رغم أن معظم سكانها يحملون الجنسية الأميركية، تعيش تحت حصار نفسي وجغرافي. الاعتداءات اليومية، وحرمان السكان من زراعة أراضيهم أو قطف الزيتون، ليست مجرد تجاوزات، بل أدوات لإجبار الفلسطينيين على الرحيل أو القبول بالأمر الواقع.

ضم بلا إعلان.. الاستيطان أداة السيادة


صحيفة هآرتس الإسرائيلية وضعت عنواناً صارخاً لتقريرها الأخير: "خلق واقع السيادة". التقرير يتحدث عن تطبيق فعلي للقانون الإسرائيلي في الضفة الغربية، من خلال تشريعات الكنيست، ومشروعات البنى التحتية، وإقامة مناطق صناعية ومشاريع للطاقة المتجددة تساهم الآن بـ20% من مجمل الطاقة في إسرائيل.

مديرية الاستيطان، التي أنشأتها وزارة الدفاع، تلعب دوراً مركزياً في ذلك. وفقاً ليوني دانينو، رئيس الطاقم في المديرية، فإن التعامل مع الضفة بات شبيهاً بالتعامل مع النقب والجليل داخل إسرائيل، من حيث التخصيص المالي والتطوير. الهدف المزدوج هو تعزيز الوجود الإسرائيلي، وطمس خطوط التقسيم التي يفترض أن تُبقي الضفة خارج السيادة الإسرائيلية.

2025.. عام "ثورة الاستيطان"؟


اللافتات التي ظهرت في أنحاء الضفة، مع صور وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، حملت شعار: "ثورة الاستيطان 2025". لم تعد هذه الخطوات مجرد تمهيد أو اختبار؛ بل تنفيذ عملي لخطة ضم، تتخذ أشكالاً متعدّدة، من الطرق، إلى البؤر الاستيطانية، إلى فرض الضرائب والقوانين الإسرائيلية على الفلسطينيين.

بحسب منظمة "السلام الآن"، شهد الربع الأول من عام 2025 مصادقة الحكومة على أكثر من 14,300 خطة بناء استيطاني، أي ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف ما أُقرّ في عام 2022.
أما منظمة "ييش دين"، فترى أن الضم بات واقعاً قائماً، وأنه ينتهك القانون الدولي، ويُقصي أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني عن حقوقهم الأساسية.

التمويل والقانون.. أدوات موازية للضم


ضمن سلسلة القوانين التي تم إقرارها، برزت تسهيلات لشراء الأراضي من قبل اليهود، وإلغاء بعض القوانين الأردنية التي ما زالت سارية في الضفة، بالإضافة إلى إدراج مستوطنات جنوب جبل الخليل ضمن تمويل "سلطة تطوير النقب"، مما يعزز إدماجها الإداري في بنية الدولة الإسرائيلية.

وخلال الحرب على غزة وحدها، أنشأ المستوطنون أكثر من 200 بؤرة استيطانية جديدة، معظمها على شكل مزارع صغيرة، تحوّلت إلى نواة لتوسع أكبر.
وتقوم إسرائيل بشق شبكات طرق جديدة تربط هذه البؤر بالمستوطنات والمدن داخل الخط الأخضر، وهو ما وصفه المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان بأنه "تنفيذ فعلي لمشروع الضم"، مع تخصيص أكثر من 838 مليون دولار لذلك خلال عام واحد.

الضفة بين فكّي الكماشة


بين توسّع جغرافي من جهة، وإحكام السيطرة القانونية والإدارية من جهة أخرى، تجد الضفة الغربية نفسها أمام مرحلة جديدة؛ ليست انتقالية، بل تأسيسية لواقع دائم.
الضم لم يعد شبحاً أو احتمالاً مستقبلياً، بل واقعاً جارياً ببطء محسوب. قد لا يُعلن في مؤتمر صحفي، لكن مع كل طريق يُشَق، وكل جدار يُقام، وكل قرية تُعزل، تتقدّم إسرائيل خطوة جديدة في مشروع السيادة الشاملة على الأرض الفلسطينية.