اتحاد العالم الإسلامي
اتحاد العالم الإسلامي

رومانيا بين صناديق الاقتراع وشبح التطرف.. انتخابات رئاسية تُعيد رسم المشهد السياسي وسط ضغوط داخلية وخارجية

انتخابات
محمود المصري -

تتجه الأنظار مجددًا نحو رومانيا، حيث أدلى الناخبون بأصواتهم في انتخابات رئاسية توصف بالحاسمة، ليس فقط لمستقبل القيادة السياسية في البلاد، ولكن أيضًا لاتجاهات رومانيا الإقليمية والدولية. هذه الانتخابات تأتي بعد ستة أشهر من أزمة سياسية غير مسبوقة، أعقبت فوز مرشح يميني متطرف أُثيرت حوله شبهات تدخل خارجي، ما أدى إلى إلغاء النتائج وإشعال الجدل حول مصير الديمقراطية في دولة يُفترض أنها في قلب المشروع الأوروبي.


الانتخابات الملغاة لحظة كشف الانقسام


كانت انتخابات نوفمبر 2024 بمثابة زلزال سياسي في رومانيا، بعد أن أفضت إلى فوز كالين جورجيسكو، المعروف بمواقفه المؤيدة لروسيا ورفضه للناتو، ما أثار مخاوف عميقة لدى النخبة السياسية الغربية. وبدلاً من تمكينه، جرى إلغاء النتائج، وسط ادعاءات بتدخل روسي، ما عمّق الشكوك الشعبية بمصداقية النظام الانتخابي وزاد من تعقيد العلاقة بين الشعب والمؤسسات.
الإلغاء لم يُنهِ الأزمة، بل نقلها إلى مرحلة أكثر احتقانًا. فقد تحوّل جورجيسكو إلى رمز لليمين المتطرف، رغم استبعاده من جولة مايو، ليملأ الفراغ السياسي زعيم قومي شعبوي آخر: جورج سيميون.

سيميون.. الشعبوي الرقمي وصاحب الخطاب المزدوج

يُعد جورج سيميون الآن المرشح الأوفر حظًا في جولة الاقتراع الحالية. ومع أنه يعارض الحرب الروسية على أوكرانيا ظاهريًا، فإن خطابه يحمل نبرة وطنية متطرفة واضحة، ويتجنب دعم أوكرانيا، ويروّج لفكرة الوحدة مع مولدوفا، بل سبق أن حرض علنًا على "جلد القضاة" بعد إلغاء نتائج الانتخابات الماضية.


سيميون يتقن اللعب على الحبلين: يُغازل المعارضين للغرب من جهة، ويخفف لهجته بشأن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من جهة أخرى. وبراعته في استخدام المنصات الرقمية، وخاصة "تيك توك"، أعاد للأذهان صعود جورجيسكو في الانتخابات الماضية، مما يعزز فرصه في استقطاب شريحة الشباب والمهاجرين الساخطين على النخبة التقليدية.
المشهد الانتخابي: خليط من التصدع والتحول
يتوزع باقي المرشحين بين:
كرين أنتونيسكو، الليبرالي المدعوم حكوميًا، ومؤيد بقوة للناتو والاتحاد الأوروبي.


نيكوسور دان، عمدة بوخارست السابق، الذي يخوض السباق مستقلًا ببرنامج مناهض للفساد.


فيكتور بونتا، رئيس الوزراء السابق، الذي يتبنى الآن خطابًا محافظًا-قوميًا بعد تحوله الأيديولوجي.

ورغم انقسام الأصوات، فإن الجولة الثانية – في حال عدم حصول أي مرشح على الأغلبية المطلقة – قد تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الأحزاب التقليدية على تشكيل تحالف موحد في وجه المد القومي الشعبوي.

التحديات البنيوية.. اقتصاد هش وفجوة تنموية

تخوض رومانيا هذه الانتخابات في ظل أزمة اقتصادية عميقة، إذ تعاني من أكبر عجز في الميزانية بين دول الاتحاد الأوروبي، وتواجه مطالب من بروكسل بزيادة الضرائب أو تقليص الإنفاق. وبينما تجاوزت مستويات المعيشة في المدن مثيلاتها في بعض دول أوروبا الشرقية، فإن الريف الروماني لا يزال يعاني من نقص في البنية التحتية والخدمات الأساسية.
هذه الهوة بين المركز والأطراف غذّت الشعور بالتهميش، ورسّخت الحاجة لدى كثير من الناخبين إلى خطاب "العدالة الوطنية" الذي يقدمه اليمين المتطرف.

تلعب الجالية الرومانية في المهجر – نحو 4 ملايين شخص – دورًا محوريًا في الانتخابات. وفي الانتخابات السابقة، كان تصويتهم حاسمًا لصالح جورجيسكو. واليوم، يُتوقع أن يمنحوا دفعة قوية لسيميون، في تعبير عن رفضهم للنخبة السياسية الحاكمة التي يتهمونها بالفشل والفساد.

البُعد الدولي.. صراع إرادات بين واشنطن وبوخارست


أثارت التحركات لمنع جورجيسكو من خوض الانتخابات انتقادات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي اتهمت رومانيا بقمع المعارضة. وبرز نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، في مؤتمر ميونيخ للأمن مدافعًا عن حق الرومانيين في اختيار من يمثلهم بحرية.
وجاءت الضغوط على بوخارست لإعادة النظر في موقفها، لكن السلطات الرومانية قاومت تلك الضغوط، بدعم من الاتحاد الأوروبي. وفي تطور لافت، ألغت إدارة ترمب إدراج رومانيا في برنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول، في خطوة فسّرها كثيرون على أنها عقاب سياسي للحكومة الحالية، مما قد يصب في مصلحة سيميون.

النتيجة المحتملة.. اختبار ديمقراطي يتجاوز الداخل الروماني

يتجاوز الرهان في هذه الانتخابات مجرد اختيار رئيس. فالموقع الذي يشغله الرئيس في رومانيا – وإن كان محدودًا تنفيذيًا – يحمل تأثيرًا كبيرًا في قرارات الأمن القومي، والتحالفات العسكرية، والتوجهات الخارجية. وللرئيس دور رئيسي في تمثيل البلاد في قمم الناتو والاتحاد الأوروبي، وتعيين المسؤولين الكبار في الدولة.
لذلك، فإن فوز مرشح يميني قومي مناهض للمؤسسات الغربية قد يُحدث ارتدادات تتجاوز حدود رومانيا، ليكون بمثابة اختبار جديد لقدرة الديمقراطية الأوروبية على الصمود أمام موجة الشعبوية المتصاعدة.